للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وإن تعجب فعاجب هذه الكلمة الغريبة وائتلافه على ما قبلها، إذ هي مقطعان: أحدهما مد ثقيل، والآخر مد خفيف، وقد جاءت عقب غُنتين في " إذاً " و " قسمة " وإحداهما خفيفة حادة،

والأخرى ثقيلة متفشية، فكأنها بذلك ليست إلا مجاورة صوتية لتقطيع موسيقي. وهذا معنى رابع للثلاثة التي عددناها آنفاً، أما خامس هذه المعاني، فهو أن الكلمة التي جمعت المعاني الأربعة

على غرابتها، إنما هي أربعة أحرف أيضاً.

ثم الكلماتُ التي يُظن أنها زائدة في القرآن كما يقول النحاة، فإن فيه من ذلك أحرفاً: كقوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) .

وقوله: (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا)

فإن النحاة يقولون إن " ما " في الآية الأولى و " أن " في الثانية، زائدتان، أي في الإعراب.

فيظن مَن لا بصرَ له أنهما كذلك في النظم ويقيس عليه، مع أن في هذه الزيادة لوناً من التصوير لو هو حذف من الكلام لذهب بكثير من حسنه وروعته، فإن المراد بالآية الأولى، تصويرُ لين النبي - صلى الله عليه وسلم - لقومه، وإن ذلك رحمة من الله، فجاء هذا المد في " ما " وصفاً لفظياً يؤكد معنى اللين ويفخمه، وفوق ذلك فإن لهجة النطق به تُشعر بانعطاف وعناية لا يُبتدأ هذا المعنى بأحسن منهما في بلاغة السياق،

ثم كان الفصل بين الباء الجارَّة ومجرورها (وهو لفظ رحمة) مما يلفت النفس إلى تدبر المعنى وينبه الفكر على قيمة الرحمة فيه، وذلك كله طبعي في بلاغة الآية كما ترى.

والمراد بالثانية تصويرُ الفصل الذي كان بين قيام البشير بقميص يوسف وبين مجيئه لبعد ما كان بين يوسفَ وأبيه عليهما السلام وأن ذلك كأنه كان منتظراً بقلق واضطراب تؤكدهما وتصف الطربَ لمقدمه واستقراره، غُنةُ هذه النونِ في الكلمة الفاصلة؛ وهي " أن " في قوله: " أن جاء ".

وعلى هذا يجري كل ما ظن أنه في القرآن مزيد: فإن اعتبار الزيادة فيه وإقرارَها بمعناها،

إنما هو نقص يجل القرآن عنه، وليس يقول بذلك إلا رجل يعتسف الكلام ويقتضي فيه بغير علمه أو بعلم غيره. . . فما في القرآن حرف واحد إلا ومعه رأفي يسنح في البلاغة، من جهة نظمه، أو

دلالته، أو وجه اختياره، بحيث يستحيل ألبتة أن يكون فيه موضع قلق أو حرف نافر أو جهة غير مُحكمة أو شيء مما تنفذ في نقده الصنعة الإنسانية من أي أبواب الكلام إن وسعها منه باب.

ولكنك واجد في الناس من ينقبض ذرعُه ويُقصر به علمه، ولا يدعُ مع ذلك أن يقدم على الأمر لا يعرف من أين مُطلعه ومأتاه فيُمضي القولَ على ما خيلَ؛ ويفتي بما اختال، ولا يمنعه تقصيره من أن يستطيل به ولا استطالته من أن يكابر عليها؛ ولا مكابرته من اللجاج فيها، فيخطئ صواب

القول إن قال، ثم يخطئ الثانية في تصويب خطئه إن احتج، وما في الخط! جهة ثالثة إلا أن يصر على الخطإ.

ومما لا يسعه طوق إنسان في نظم الكلام البليغ، ثم مما يدل على أن نظم القرآن مادة فوق

<<  <   >  >>