للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال ابن عباس، وغيره: غَفَر لهم الكثير (١) من السيئات، وشكر لهم اليسير من الحسنات.

(الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ): يقولون: الذي أعطانا هذه المنزلة، وهذا المقام من فضله وَمَنِّه (٢) ورحمته، لم تكن أعمالنا تساوي ذلك. كما ثبت في الصحيح أن رسول الله قال: "لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يَتَغَمَّدَنِي الله برحمة منه وفضل". (٣)

(لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) أي: لا يمسنا فيها عناء ولا إعياء.

والنصَب واللغوب: كل منهما يستعمل في التعب، وكأن المراد ينفي هذا وهذا عنهم أنهم لا تعب على أبدانهم ولا أرواحهم (٤)، والله أعلم. فمن ذلك أنهم كانوا يُدْئبُون أنفسهم في العبادة في الدنيا، فسقط عنهم التكليف بدخولها، وصاروا في راحة دائمة مستمرة، قال الله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ [الحاقة: ٢٤].

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧)﴾.

لما ذكر تعالى حال السعداء، شرع في بيان مآل الأشقياء، فقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا)، كما قال تعالى: ﴿لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا﴾ [طه: ٧٤]. وثبت في صحيح مسلم: أن رسول الله قال: "أما أهل النار الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها ولا يحيون". (٥) قال [الله] (٦) تعالى: ﴿وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ﴾ [الزخرف: ٧٧]. فهم في حالهم ذلك يرون موتهم راحة لهم، ولكن لا سبيل إلى ذلك، قال الله تعالى: (لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا)، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ [الزخرف: ٧٤، ٧٥]، وقال ﴿كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا﴾ [الإسراء: ٩٧] ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا﴾ [النبأ: ٣٠].

ثم قال: (كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) أي: هذا جزاء كل من كفر بربه وكذب بالحق.

وقوله: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا) أي: ينادون فيها، يجأرون إلى الله، ﷿ بأصواتهم: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أي: يسألون الرجعة إلى الدنيا، ليعملوا غير عملهم


(١) في أ: "الكبير".
(٢) في س: "ومنته".
(٣) صحيح البخاري برقم (٥٦٧٣) وصحيح مسلم برقم (٢٨١٦).
(٤) في ت، أ: "ولا على أرواحهم".
(٥) صحيح مسلم برقم (١٨٥).
(٦) زيادة من ت، س.