للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقوله تعالى: (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) أي: أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم؛ لما ألبسوا من المهابة والذعر، لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم (١) يد لامس، حتى يبلغ الكتاب أجله، وتنقضي رقدتهم التي شاء فيهم، لما له في ذلك من الحجة والحكمة (٢) البالغة، والرحمة الواسعة.

﴿وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (٢٠)

يقول تعالى: وكما أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبشارهم، لم يفقدوا من أحوالهم وهيئاتهم شيئًا، وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين؛ ولهذا تساءلوا بينهم: (كَمْ لَبِثْتُمْ)؟ أي: كم رقدتم؟ (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) كأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار، واستيقاظهم (٣) كان في آخر نهار؛ ولهذا استدركوا فقالوا: (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ) أي: الله أعلم بأمركم، وكأنه حصل لهم نوع تَرَدّد في كثرة نومهم، فالله أعلم، ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك (٤) وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب، فقالوا: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ) أي: فضتكم هذه. وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها، فتصدقوا منها وبقي منها؛ فلهذا قالوا: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) أي: مدينتكم التي خرجتم منها والألف واللام للعهد.

(فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا) أي: أطيب طعامًا، كقوله: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾ [النور: ٢١] وقوله ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ [الأعلى: ١٤] ومنه الزكاة التي تُطَيب (٥) المال وتطهره. وقيل: أكثر طعامًا، ومنه زكا الزرع إذا كثر، قال الشاعر: (٦)

قَبَاِئُلنا سَبْعٌ وَأَنْتُمْ ثَلاثَةٌ … وَللسَّبْعُ أزْكَى مِنْ ثَلاثٍ وَأطْيَبُ

والصحيح الأول؛ لأن مقصودهم إنما هو الطيب الحلال، سواء كان قليلا أو كثيرا.

وقوله (وَلْيَتَلَطَّفْ) أي: في خروجه وذهابه، وشرائه وإيابه، يقولون: وَلْيَتَخَفَّ (٧) كل ما يقدر عليه (وَلا يُشْعِرَنَّ) أي: ولا يعلمن (بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ) أي: إن علموا بمكانكم، (يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) يعنون أصحاب دقيانوس، يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم، فلا يزالون يعذبونهم (٨) بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم (٩) في ملتهم التي هم عليها أو


(١) في أ: "أو يمسهم".
(٢) في ف: " الحكمة والحجة ".
(٣) في ف: "وإيقاظهم".
(٤) في ت: "إن ذلك".
(٥) في ت: "يطيب".
(٦) البيت في تفسير الطبري (١٥/ ١٤٨) غير منسوب.
(٧) في ف، أ: "وليتخفف".
(٨) في ف: "يزالون يعذبونكم".
(٩) في ف: "يعيدوكم".