للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ولهذا أيضا لما قدم رسول مسيلمة الكذاب على رسول الله قال له: "أتشهد (١) أن مسيلمة رسول الله؟ " قال: نعم. فقال رسول الله : "لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك" (٢) وقد قيض الله له ضرب العنق في إمارة ابن مسعود على الكوفة، وكان يقال له: ابن النواحة، ظهر عنه في زمان ابن مسعود أنه يشهد لمسيلمة بالرسالة، فأرسل إليه ابن مسعود فقال له: إنك الآن لست في رسالة، وأمر به فضربت عنقه، لا ولعنه.

والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة، أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية، أو نحو ذلك من الأسباب، فطلب من الإمام أو نائبه أمانًا، أعطي أمانًا ما دام مترددًا في دار الإسلام، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه. لكن قال العلماء: لا يجوز أن يمكن من الإقامة في دار الإسلام سنة، ويجوز أن يمكن من إقامة أربعة أشهر، وفيما بين ذلك فيما (٣) زاد على أربعة أشهر ونقص عن سنة قولان، عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء، .

﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧)

يبين تعالى (٤) حكمته في البراءة من المشركين ونظرته إياهم أربعة أشهر، ثم بعد ذلك السيف المرهف أين ثقفوا، فقال تعالى: (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ) وأمان ويتركون فيما هم فيه وهم مشركون بالله كافرون (٥) به وبرسوله، (إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) يعني يوم الحديبية، كما قال تعالى: ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ الآية [الفتح: ٢٥]، (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أي: مهما (٦) تمسكوا بما عاقدتموهم عليه وعاهدتموهم من ترك الحرب بينكم وبينهم عشر سنين (فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) وقد فعل رسول الله ذلك والمسلمون، استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة في سنة ست، إلى أن نقضت قريش العهد ومالؤوا حلفاءهم بني بكر على خزاعة أحلاف رسول الله ، فقتلوهم معهم في الحرم أيضا، فعند ذلك غزاهم رسول الله في رمضان سنة ثمان، ففتح الله عليه البلد الحرام، ومكنه من نواصيهم، ولله الحمد والمنة، فأطلق من أسلم منهم بعد القهر والغلبة عليهم، فسموا الطلقاء، وكانوا قريبا من ألفين، ومن استمر على كفره وفر من رسول الله بعث إليه بالأمان والتسيير في الأرض أربعة أشهر، يذهب حيث شاء: منهم صفوان بن أمية، وعِكْرِمة بن أبي جهل وغيرهما، ثم هداهم الله بعد ذلك إلى الإسلام التام، والله المحمود على جميع ما يقدره ويفعله.


(١) في ك: "أما تشهد".
(٢) رواه أحمد في المسند (٣/ ٤٨٧) وأبو داود في السنن برقم (٢٧٦١) من طريق سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن سعد بن طارق عن سلمة بن نعيم عن أبيه قال: كنت عند النبي حين جاءه رسل مسيلمة، فذكر نحوه.
(٣) في ت: "ما".
(٤) في ت: "يبين تعالى أن".
(٥) في ت، ك،: "كافرين" وهو خطأ.
(٦) في د: "فمهما".