وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ: هُوَ الَّذِي وَفَّقَهُمْ لِتَوْحِيدِهِ، وَأَلْهَمَهُمْ إِيَّاهُ، وَجَعَلَهُمْ يُوَحِّدُونَهُ، فَهُوَ الْمُوَحِّدُ لِنَفْسِهِ بِمَا عَرَفَهُمْ بِهِ مِنْ تَوْحِيدِهِ، وَبِمَا أَلْقَاهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَجْرَاهُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ: فَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ نَفْيُ أَفْعَالِهِمْ عَنْهُمْ، فَلَا يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُوَحِّدُ لِنَفْسِهِ، لَا أَنَّ عَبَدَهُ يُوَحِّدُهُ، هَذَا بَاطِلٌ شَرْعًا وَعَقْلًا وَحِسًّا: بَلِ الْحَقُّ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَحَّدَ نَفْسَهُ بِتَوْحِيدٍ قَامَ بِهِ، وَوَحَّدَهُ عَبِيدُهُ بِتَوْحِيدٍ قَامَ بِهِمْ بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، فَهُوَ الْمُوَحِّدُ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَهُمُ الْمُوَحِّدُونَ لَهُ بِتَوْفِيقِهِ وَمَعُونَتِهِ وَإِذْنِهِ، فَالَّذِي قَامَ بِهِمْ لَيْسَ هُوَ الَّذِي قَامَ بِالرَّبِّ تَعَالَى وَلَا وَصْفِهِ، بَلِ الْعِلْمُ بِهِ وَمَحَبَّتُهُ وَتَوْحِيدُهُ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ الشَّاهِدُ وَالْمَثَلُ الْأَعْلَى، فَهِيَ الشَّوَاهِدُ وَالْأَمْثِلَةُ الْعَلِيَّةُ، الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: ٢٧] وَقَالَ تَعَالَى {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: ٦٠] وَكَثِيرًا مَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: أَنْتَ فِي قَلْبِي وَفِي فُؤَادِي، وَالْمُرَادُ: هَذَا، لَا ذَاتُهُ وَنَفْسُهُ.
وَقَوْلُهُ " وَالَّذِي يُشَارُ إِلَيْهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُشِيرِينَ: أَنَّهُ إِسْقَاطُ الْحَدَثِ، وَإِثْبَاتُ الْقِدَمِ " فَإِنْ أُرِيدَ: إِسْقَاطُهُ مِنَ الْوُجُودِ؛ فَمُكَابَرَةٌ لِلْعِيَانِ، وَإِنْ أُرِيدَ: إِسْقَاطُهُ مِنَ الشُّهُودِ؛ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَأْمُورٍ بِهِ، وَلَا هُوَ كَمَالٌ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ تَوْحِيدَ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ، فَمَا هَذَا الْإِسْقَاطُ لِلْحَدَثِ الَّذِي هُوَ نِهَايَةُ التَّوْحِيدِ، وَأَعْلَى مَقَامَاتِهِ؟ وَهَلِ الْكَمَالُ إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، كَمَا هِيَ فِي شَهَادَةِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ؟
فَإِسْقَاطُ الْحَدَثِ كَلَامٌ لَا حَاصِلَ لَهُ، إِذْ لَا كَمَالَ فِيهِ، بَلْ إِنَّمَا يَنْفَعُ إِسْقَاطُ الْحَدَثِ عِنْدَ دَرَجَةِ الْقَصْدِ وَالتَّأَلُّهِ، فَإِسْقَاطُ الْحَدَثِ - كَمَا تَقَدَّمَ - ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: إِسْقَاطُهُ عَنِ الْوُجُودِ، وَهُوَ مُكَابَرَةٌ، وَإِسْقَاطُهُ عَنِ الشُّهُودِ، وَهُوَ نَقْصٌ، وَإِسْقَاطُهُ عَنِ القُصُودِ، وَهُوَ كَمَالٌ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُلْحِدُ: إِسْقَاطُ الْحَدَثِ وَإِثْبَاتُ الْقِدَمِ الصَّحِيحِ، وَنَظَرُ الْوَارِدِ عَلَى هَذِهِ الْحَضْرَةِ لِضَعْفِهِ، فَإِذَا تَمَكَّنَ عَرَفَ أَنَّ الْحَدَثَ لَمْ يَزَلْ سَاقِطًا، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ " إِسْقَاطُ الْحَدَثِ " وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ " إِثْبَاتُ الْقِدَمِ " فَإِنَّ الْقَدِيمَ لَمْ يَزَلْ ثَابِتًا، فَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَرْضَى بِهِ الْمُوَحِّدُ، وَلَا الْمُلْحِدُ، وَلَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ الَّذِي تَضَمَّنَ أَعْلَى مَرَاتِبِ التَّوْحِيدِ، بَلِ الْقُرْآنُ - مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ - يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ.
قَالَ الْمُلْحِدُ: وَأَيْضًا فَالتَّوْحِيدُ يَسْتَغْرِقُ الْقَوْلَ فِي الطَّمْسِ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ نُطْقٌ فَلَيْسَ هُنَاكَ شُهُودٌ، كَمَا قَالَ فِي الْمَوَاقِفِ: أَنَا أَقْرَبُ إِلَى اللِّسَانِ مِنْ نُطْقِهِ إِذَا نَطَقَ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute