للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا الأمر لا يستبعد، وذلك للاعتبارات التالية:

١-باعتبار المصلحة التي من أجلها كان القول بجعل الوفر في أعيان من جنس الوقف تكون وقفاً، أليس ذلك نوعاً من الاستثمار؟ لم يبق بعد ذلك إلا إشكالية المضاربة في ثمن المعاوضة دون صرفه إلى أعيان من جنس الوقف.

٢-إذا اعتبرنا القول بجواز وقف العين ابتداء للاستثمار والمضاربة فنقول: إن ما جاز ابتداء يجوز في الأثناء، بناء على المصلحة الراجحة كما سماها ابن تيمية، ليرتب عليها استبدال الوقف للجدوى الاقتصادية التي ليست ناشئة عن حاجة أو ضرورة وإنما عن الحاجة الاستثمارية.

٣- قياساً على جواز المضاربة في مال اليتيم، بل هو أولى من تركه تأكله الصدقة قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: ٢٢٠] .

٤-يقاس على التصرف في مال الغير بالمصلحة الراجحة الذي قد يثاب عليه فاعله، ففي الحديث الصحيح: حديث ثلاثة الغار، ومنهم الرجل الذي كان مستأجراً أجيراً بفرق من أرز فلما قضى عمله، قال: أعطني حقي فعرضت عليه، فرغب عنه، فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقراً برعاتها فجاءني فقال: اتق الله وأعطني حقي، فقلت: اذهب إلى ذلك البقر ورعاتها فخذ.. إلى آخر الحديث. ونعلم أن الله فرج عنه بفضل هذا العمل، وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله: "باب إذا زرع بمال قوم بغير إذنهم وكان في ذلك صلاح لهم" (١) .

قال الأبي في شرحه على صحيح مسلم في هذا المحل ما نصه: "احتج به الحنفية على أن بيع الرجل مال غيره والتصرف فيه بغير إذنه جائز إذا ما أمضاه المالك، وأجاب أصحابنا وغيرهم بأنه شرع من قبلنا فيحتمل أنه استأجره بأجر في الذمة ولم يسلمه له بل عرضه عليه فلم يقبله لردائته فلم ينتقل من غير قبض فيبقى على ملك ربه فلم يتصرف إلا في ملكه، ثم تطوع بما اجتمع منه" (٢) .

فهذا يدل على أن التصرف بالإصلاح وبما هو أصلح أمر مقبول شرعاً، وهذه شهادة الجنس، وبيان ذلك أن نقول: إن مال الغير يشمل مالاً مملوكاً لشخص لم يخرج عن ملكه، ويشمل مالاً موهوباً لشخص آخر، ثم إن أمر الغلة والوفر أخف من أمر أصل الوقف، فالثمرة ليست حبيسة بل هي مسبلة، كما هو صريح النص، ولهذا أجازوا استبدالها بالدرهم قبل وصولها إلى يد المستحق، لأن الغلة ليست حبيسة، ويشهد لذلك ما في كتاب الأقضية الثالث من سماع أشهب عن مالك من كتاب الحبس في (البيان والتحصيل) لابن رشد: "وسئل عن الرجل يحبس الحائط صدقة على المساكين أيقسم بينهم تمراً أم يباع ثم يقسم الثمن بينهم؟ فقال: ذلك يختلف، وذلك إلى ما قال فيه المتصدق أو إلى رأي الذي يلي ذلك واجتهاده إن كان المتصدق لم يقل في ذلك شيئاً، إن رأى خيراً أن يبيع ويقسم ثمنه، وإن رأى خيراً أن يقسم ثمره قسمه ثمراً، فذلك يختلف، فربما كان الحائط بالمدينة، فإن حمل أضر ذلك بالمساكين حمله، وربما كان في الناس الحاجة إلى الطعام فيكون خيراً لهم من الثمن فيقسم إذا كان هكذا فهو أفضل وخير، وهذه صدقات عمر بن الخطاب رضي الله عنه منها ما يباع فيقسم ثمنه، ومنها ما يقسم تمراً. قال محمد بن رشد: "هذا بين على ما قاله إن ذلك إلى اجتهاد الناظر في ذلك إن لم يقل المتصدق في ذلك شيئاً" (٣) .


(١) فتح الباري: ٥/١٦.
(٢) إكمال الإكمال شرح الأبي على صحيح مسلم.
(٣) البيان والتحصيل: ١٢/٢٤٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>