للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا النوع رخصة مجازا؛ إذ لا شبه بينه وبين الرخصة؛ لأن الأصل لم يبق مشروعا في حق المسلمين، فلا عزيمة تواجه هذا النوع حتى يطلق عليه أنه رخصة في مقابلتها، إلا أنه لما ترتب على انتفاء هذه التكاليف من شريعتنا اليسر والسهولة في حقنا بالنسبة للأمم السابقة، أطلق عليها عند الحنفية اسم الرخصة تجوزا وتوسعا، أما عند غير الحنفية، فلا يعتبر هذا النوع من باب الرخصة (١) .

ويظهر مما ذكر أن الرخصة عند الحنفية تنقسم إلى قسمين: مباح وواجب.

وذكر الشاطبي إطلاقات أربعة للرخصة، منها ما هو خاص ببعض الناس، ومنها ما هو عام للناس كلهم، ثم قال كما تقدم: حكم الرخصة الإباحة مطلقا، من حيث هي رخصة، وأقام الأدلة على ذلك (٢) .

تقسيم آخر للرخصة: قسم الحنفية الرخصة أيضا قسمين: رخصة ترفيه، ورخصة إسقاط (٣) . ورخصة الترفيه هي الرخصة الحقيقية: وهي التي يكون حكم العزيمة معها باقيا ودليله قائما، ولكن رخص في تركه تخفيفا عن المكلف، كما بينا في النوع الأول، كالتلفظ بالكفر عند الإكراه، وإتلاف مال غيره، أو الفطر في رمضان عند الإكراه. وهي نوعان:

النوع الأول – هو الكامل في الرخصة: وهو ما أباحه الشارع مع قيام الدليل المحرم وقيام حكمه جميعا. مثل إجراء كلمة الكفر على اللسان عند الإكراه عليه بالقتل أو القطع، دليل الحرمة الدال على وجوب الإيمان قائم أبدا، ولكن رخص للمكره النطق بالكفر تفاديا لما قد يلحقه من ضرر في نفسه صورة بخراب بدنه، ومعنى بزهوق روحه، وأما حق الله فيفوت صورة ظاهرًا بالتلفظ بكلمة الكفر باللسان، ولا يفوت معنى؛ لأن قلبه مطمئن بالإيمان. فرخص التلفظ لعذر، وجاز للمكره تقديم حق نفسه وتكريما من الله وفضلا ورحمة. ومثله أيضا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا خاف الشخص القتل، فله مراعاة حق نفسه. وينطبق هذا أيضا على ترك الصلاة المفروضة عينا، والصوم المفروض عينا، وأكل مال الغير، كل ذلك يجوز تركه عند الخوف من القتل أو القطع بالإكراه.

النوع الثاني – ما أبيح فعله مع قيام الدليل المحرم دون حكمه، كإفطار المسافر في رمضان؛ فإن دليل الحرمة قائم وهو شهود شهر رمضان، أما الحكم فغير قائم؛ لأن الشارع رخص في الإفطار لعذر السفر، لكن الأخذ بالعزيمة الأولى، لقيام الدليل إلا إذا أدى السفر لضعف الصائم، فيكون الأخذ بالرخصة أولى.

وأما رخصة الإسقاط وهي الرخصة المجازية: فهي التي لا يكون حكم العزيمة معها باقيا، كإباحة أكل الميتة أو شرب الخمر عند الجوع الشديد أو الظمأ الشديد؛ فإن حرمة الأكل أو الشرب سقطت حال الاضطرار. وهي نوعان أيضًا:

النوع الأول – وهو أتم في المجاز من النوع الثاني: وهو ما وضع عنا من الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا، كقتل النفس لصحة التوبة، وقرض موضع النجاسة، وقطع الأعضاء الخاطئة، وإيجاب ربع المال. ويسمى هذا النوع رخصة مجازا؛ لأن الأصل ساقط لم يبق مشروعا، فلم يكن رخصة إلا مجازا من حيث هو نسخ، تمحض تخفيفا، أي أنه لما ترتب على عدم تشريع هذه الأحكام في شريعتنا اليسر والسهولة، أطلق عليه اسم الرخصة تجوزا وتوسعا.

النوع الثاني – وهو أقرب إلى الحقيقة من النوع الأول: وهو ما سقط عن العباد مع كونه مشروعا في الجملة، كإباحة العقود التي يحتاج إليها الناس مع مخالفتها للقواعد العامة، كعقد السلم، فنظرًا لسقوط الحكم الأول أصلا، سمي الثاني رخصة مجازا، ومن حيث بقي الحكم الأول مشروعًا في الجملة: وهو بطلان بيع المعدوم، كان الحكم الثاني هو السلم شبيها بالرخصة الحقيقية.

والظاهر ألا معنى لهذه التفرقة بين رخصة الترفيه ورخصة الإسقاط؛ لأن النصوص الشرعية لم تفرق بين حال الإكراه وحال الاضطرار؛ لأن الإكراه نوع من الاضطرار، وفي الحالتين أبيح المحظور للضرورة. وإن كل الرخص شرعت للترفيه والتخفيف مع بقاء حكم الحظر ودليله، كل ما في الأمر أنه لا إثم في فعل المحظورات.

والرخصة من أنواع الحكم الوضعي؛ لأن الضرورة سبب في إباحة المحظور، وطروء العذر سبب في التخفيف بترك الواجب، ودفع الحرج سبب في تصحيح بعض العقود.


(١) الإبهاج شرح المنهاج للعلامة تاج الدين السبكي: ١ / ٥١.
(٢) الموافقات: ١ / ٣٠٧ وما بعدها.
(٣) كشف الأسرار مع نور الأنوار: ١ / ٦٣٥ – ٦٤٤

<<  <  ج: ص:  >  >>