وَكَقُضْبَانِ الْأَشْجَارِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، قِيلَ: قَوْلُهُ: مِنْ فِضَّةٍ خَبَرُ " آنِيَتُهُمَا "، وَالْجُمْلَةُ صِفَةُ جَنَّتَانِ، أَوْ مِنْ فِضَّةٍ صِفَةُ قَوْلِهِ: جَنَّتَانِ، وَخَبَرُ " آنِيَتُهُمَا " مَحْذُوفٌ أَيْ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا كَذَلِكَ، أَوْ آنِيَتُهُمَا فَاعِلُ الظَّرْفِ أَيْ تُفَضَّضُ آنِيَتُهُمَا، وَكَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَبْنَى وَالْمَعْنَى قَوْلُهُ: ( «وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا» ) ثُمَّ ظَاهَرُهُ أَنَّ الْجَنَّتَيْنِ مِنْ فِضَّةٍ لَا غَيْرَ، وَبِالْعَكْسِ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ: وَصِفَةُ بِنَاءِ الْجَنَّةِ مِنْ أَنَّ لَبِنَةً مِنْ ذَهَبٍ وَلَبِنَةً مِنْ فِضَّةٍ - أَنَّ الْأَوَّلَ صِفَةُ مَا فِي الْجَنَّةِ مِنْ آنِيَةٍ وَغَيْرِهَا، وَالثَّانِي صِفَةُ حَوَائِطِ الْجَنَّةِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ التَّبْعِيضُ لَا التَّلْمِيعُ، أَوْ يُقَالُ: الْجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ لِلْكُمَّلِ مِنْ أَهْلِ مَقَامِ الْخَوْفِ الْمُوجِبِ لِلْقِيَامِ بِالطَّاعَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: ٤٦] وَالْجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ لِمَنْ يَكُونُ فِي مَرْتَبَةِ النُّقْصَانِ مِنْ مَقَامِ أَرْبَابِ الْكَمَالِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: ٦٢] وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِينَ هُمُ السَّابِقُونَ، وَبِالْآخَرِينَ هُمُ اللَّاحِقُونَ، وَأَمَّا الْجَنَّةُ الْمُلَمَّعَةُ فَأَصْحَابُهَا الْمُخَلِّطُونَ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. هَذَا وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْجِنَانَ أَرْبَعٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: ٤٦] وَوَصَفَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: ٦٢] وَوَصَفَهُمَا. وَرَوَيْنَا عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «جَنَّتَانِ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا مِنْ ذَهَبٍ، وَجَنَّتَانِ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا مِنْ فِضَّةٍ» . قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ مَا فِي رِوَايَةِ: جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ لِلسَّابِقِينَ، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْجَنَّتَيْنِ نَوْعَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ، أَحَدُهُمَا مِنْ ذَهَبٍ وَالْآخَرُ مِنْ فِضَّةٍ، وَقَدْ يَكُونُ لِأَرْبَابِ الْكَمَالِ جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ عَلَى يَمِينِ قُصُورِهِمْ وَشِمَالِهَا، طَلَبًا لِلزِّينَةِ لَا لِفُقْدَانِ الذَّهَبِ أَوْ كَثْرَةِ الْقِيمَةِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِالتَّثْنِيَةِ التَّكْثِيرُ، وَيُقَوِّيهِ أَنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ وَطَبَقَاتِهَا ثَمَانِيَةٌ، فَقَدْ قَالَ فِي الْمُنَاجَاةِ: هِيَ ثَمَانٍ: جَنَّةُ عَدْنٍ، وَجَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ، وَجَنَّةُ الْخُلْدِ، وَجَنَّةُ النَّعِيمِ، وَجَنَّةُ الْمَأْوَى، وَدَارُ السَّلَامِ، وَدَارُ الْقَرَارِ، وَدَارُ الْمُقَامَةِ. (وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ) أَيْ: وَلَيْسَ مَانِعٌ مِنَ الْمَوَانِعِ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ (وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ) أَيْ: صِفَةُ الْعَظَمَةِ (عَلَى وَجْهِهِ) أَيْ ثَابِتًا عَلَى ذَاتِهِ، فَهُوَ حَالٌ مِنَ الرِّدَاءِ (فِي جَنَّةِ عَدْنٍ) أَيْ كَائِنٌ فِي جَنَّةِ إِقَامَةٍ وَخُلُودٍ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْجَنَّةِ كَذَا، قِيلَ: وَهُوَ يُوهِمُ الِاخْتِصَاصَ مَعَ أَنَّ وَصْفَ الْإِقَامَةِ وَالْخُلُودِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ جِنْسِ الْجَنَّةِ، فَلَا عِبْرَةَ بِالْمَفْهُومِ الْمَوْهُومِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: عَلَى وَجْهِهِ حَالٌ مِنْ رِدَاءِ الْكِبْرِيَاءِ، وَالْعَامِلُ مَعْنَى لَيْسَ، وَقَوْلُهُ: فِي الْجَنَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ فِي الظَّرْفِ، فَيُفِيدُ بِالْمَفْهُومِ انْتِفَاءَ هَذَا الْحَصْرِ فِي غَيْرِ الْجَنَّةِ. قُلْتُ: هَذَا مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ، وَقَالَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى: أَيْ مَا بَيْنَ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ إِذَا تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ مَعَ ارْتِفَاعِ حُجُبِ الْكُدُورَةِ الْجِسْمِيَّةِ وَاضْمِحْلَالِ الْمَوَانِعِ الْحِسِّيَّةِ هُنَاكَ وَبَيْنَ نَظَرِهِ إِلَى رَبِّهِ - إِلَّا مَا يَصُدُّهُ مِنْ هَيْبَةِ الْجَلَالِ وَسُبُحَاتِ الْجَمَالِ، وَلَا يَرْتَفِعُ ذَلِكَ مِنْهُ إِلَّا بِرَأْفَةٍ وَرَحْمَةٍ مِنْهُ، تَفَضُّلًا عَلَى عِبَادِهِ، وَأُنْشِدَ فِي الْمَعْنَى:
أَشْتَاقُهُ فَإِذَا بَدَا أَطْرَقْتُ مِنْ إِجْلَالِهِ ... لَا خِيفَةً بَلْ هَيْبَةً وَصِيَانَةً لِجَمَالِهِ
وَأَصُدُّ عَنْهُ تَجَلُّدًا وَأَرُومُ طَيْفَ خَيَالِهِ
(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ: ( «إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ، طُولُهَا سِتُّونَ مِيلًا، لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ فَلَا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ أَبِي مُوسَى، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بِلَفْظِ: «فِي الْجَنَّةِ خَيْمَةٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلًا، فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ مَا يَرَوْنَ الْآخَرِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ» ) . وَرَوَى أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا: ( «جِنَانُ الْفِرْدَوْسِ أَرْبَعٌ: جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ حِلْيَتُهُمَا وَآنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ حِلْيَتُهُمَا وَآنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ، وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَشْخَبُ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ، ثُمَّ تَصْدُرُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْهَارًا» ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute