(قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَعِنْدَكِ شَيْءٌ» ؟) : أَيْ مِمَّا يُؤْكَلُ (قُلْتُ: لَا إِلَّا خُبْزٌ يَابِسٌ) : صِفَةٌ (وَخَلٌّ) ، عَطْفٌ عَلَى خُبْزٍ قِيلَ: الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَحْذُوفٌ، وَالْمُسْتَثْنَى بَدَلٌ مِنْهُ، وَنَظِيرُهُ فِي الصِّحَاحِ قَوْلُ عَائِشَةَ: إِلَّا شَيْءٌ بَعَثَتْ بِهِ أُمُّ عَطِيَّةَ. قَالَ الْمَالِكِيُّ: فِيهِ شَاهِدٌ عَلَى إِبْدَالِ مَا بَعْدَ إِلَّا مِنْ مَحْذُوفٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَا شَيْءَ عِنْدَنَا إِلَّا شَيْءٌ بَعَثَتْ بِهِ أُمُّ عَطِيَّةَ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ وَقَالَ: أَيْ لَيْسَ شَيْءٌ عِنْدَنَا، فَلَيْسَتْ " لَا " الَّتِي لِنَفْسِ الْجِنْسِ مِمَّا بَعُدَ إِلَّا مُسْتَثْنًى اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا مِمَّا قَبْلَهَا، الدَّالُّ عَلَيْهِ التَّقْدِيرُ الْمَذْكُورِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ مَالِكٍ اهـ.
وَبُعْدُهُ بَعْدَ التَّأَمُّلِ لَا يَخْفَى، ثُمَّ قِيلَ: مِنْ حَقِّ أُمِّ هَانِئٍ أَنْ تُجِيبَ بِبَلَى عِنْدِي خُبْزٌ، فَلِمَ عَدَلَتْ عَنْهُ إِلَى تِلْكَ الْعِبَارَةِ؟ وَأُجِيبَ: بِأَنَّهَا لَمَّا عَظَّمَتْ شَأْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَأَتْ أَنَّ الْخُبْزَ الْيَابِسَ وَالْخَلَّ لَا يَصْلُحَانِ أَنْ يُقَدَّمَا إِلَى ذَلِكَ الضَّيْفِ الْمُكَرَّمِ الْمُعَظَّمِ، فَمَا عَدَّتْهُمَا بِشَيْءٍ، وَمِنْ ثَمَّ طَيَّبَ خَاطِرَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَبَرَ حَالَهَا (فَقَالَ: هَاتِي) ، أَيْ أَعْطِي اسْمُ فِعْلٍ قَالَهُ الْحَنَفِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَحْضِرِي أَيْ مَا عِنْدَكِ (مَا أَقْفَرَ) : بِالْقَافِ قَبْلَ الْفَاءِ أَيْ مَا خَلَا (بَيْتٌ مِنْ أَدَمٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي مُتَعَلِّقٌ بِأَقْفَرَ، وَقَوْلُهُ: (فِيهِ خَلٌّ) : صِفَةٌ لِبَيْتٍ وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِالْأَجْنَبِيِّ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ حَالٌ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَوْصُوفِ أَيْ بَيْتٍ مِنَ الْبُيُوتِ كَذَا قَالَهُ الْفَاضِلُ الطِّيبِيُّ.
وَفِي شَرْحِ الْمِفْتَاحِ لِلسَّيِّدِ فِي بَحْثِ الْفَصَاحَةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، وَأَنْ يَجِيءَ الْحَالُ عَنِ النَّكِرَةِ الْعَامَّةِ بِالنَّفْيِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ الصِّفَةِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ صِفَةُ بَيْتٍ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا بِأَجْنَبِيٍّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لِأَنَّ " أَقْفَرَ " عَامِلٌ فِي بَيْتٍ وَصِفَتِهِ وَفِيمَا فُصِلَ بَيْنَهُمَا، هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ مَا خَلَا مِنَ الْإِدَامِ وَلَا عَدِمَ أَهْلُهُ الْأُدْمَ، وَالْقِفَارُ الطَّعَامُ بِلَا إِدَامٍ، وَأَقْفَرَ الرَّجُلُ إِذَا أَكَلَ الْخُبْزَ وَحْدَهُ مِنَ الْقَفْرِ وَالْقَفَارِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الْخَالِيَةُ الَّتِي لَا مَاءَ بِهَا، وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ فِي رَوْضَةِ الْأَحْبَابِ: وَقَدْ صَحَّفَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ فَنِّ السِّيَرِ، وَقَدَّمَ الْفَاءَ عَلَى الْقَافِ، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، وَتَبِعَهُ الْحَنَفِيُّ وَقَالَ: وَتَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ بِالْفَاءِ وَالْقَافِ، وَلَيْسَ بِرِوَايَةٍ وَدِرَايَةٍ. قُلْتُ: أَمَّا الدِّرَايَةُ فَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ إِذْ مَعْنَاهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ: مَا احْتَاجَ وَلَا افْتَقَرَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ أَجْلِ الْإِدَامِ، وَيَكُونُ فِي بَيْتِهِمْ خَلٌّ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ قَدْ وَجَدْنَا بِخَطِّ السَّيِّدِ نُورِ الدِّينِ الْإِيجِيِّ - قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ - الصَّفِيِّ: أَنَّ أَفْقَرَ نُسْخَةٌ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ الْحَثَّ عَلَى عَدَمِ النَّظَرِ لِلْخُبْزِ وَالْخَلِّ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِسُؤَالِ الطَّعَامِ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِيِ السَّائِلُ مِنْهُ لِصِدْقِ الْمَحَبَّةِ وَالْعِلْمِ بِمَوَدَّةِ الْمَسْئُولِ بِذَلِكَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ فِي الشَّمَائِلِ وَكَذَا فِي جَامِعِهِ (وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) : وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْهَا، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ وَلَفْظُهُمْ: " «مَا أَقْفَرَ مِنْ أَدَمٍ بَيْتٌ فِيهِ خَلٌّ» ". وَهُوَ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ بِالْأَجْنَبِيِّ، وَيَزُولُ بِهِ الْإِشْكَالُ، فَالتَّغْيِيرُ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute