للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث / الرقم المسلسل:

(أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: ٢٩] أَيْ: لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ كَمَا صَدَرَ عَنْ بَعْضِ الْجَهَلَةِ، وَهُوَ نَفْيٌ مَعْنَاهُ نَهْيٌ نَحْوُ قَوْلِهِ - تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: ٧٩] كَمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَنَظِيرُهُ الدُّعَاءُ: بِغَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَرَحِمَهُ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنِ اغْفِرْهُ وَارْحَمْهُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: خَبَرٌ فِي مَعْنَى النَّهْيِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ، يَعْنِي كَأَنَّهُ نَهَاهُ، فَقَصَدَ أَنْ يَنْتَهِيَ فَأَخْبَرَهُ بِهِ، وَالْمُرَادُ الْجِنَايَةُ عَلَى الْغَيْرِ، إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا لِلْجِنَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ أَنْذَرَهَا فِي صُورَتِهَا لِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى الِامْتِنَاعِ، وَيَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ رَوَى فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ خَبَرًا بِحَسْبِ الْمَعْنَى. (أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ ( «لَا يَجْنِي جَانٍ عَلَى وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ عَلَى وَالِدِهِ» ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لِاخْتِصَاصِهَا بِمَزِيدِ قُبْحٍ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَأْكِيدَ " لَا يَجْنِي جَانٍ عَلَى نَفْسِهِ "، فَإِنَّ عَادَتَهُمْ جَرَتْ بِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَقَارِبَ الشَّخْصِ بِجِنَايَتِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا ظُلْمٌ يُؤَدِّي إِلَى ظُلْمٍ آخَرَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا نَفْيٌ فَيُوَافِقُ قَوْلَهُ - تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: ١٦٤] وَإِنَّمَا خُصَّ الْوَلَدُ وَالْوَالِدُ لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ الْأَقَارِبِ، فَإِذَا لَمْ يُؤَاخَذْ بِفِعْلِهِ فَغَيْرُهُمَا أَوْلَى، وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يُؤْخَذُ الرَّجُلُ بِجَرِيمَةِ أَبِيهِ وَضُبِطَ بِالْوَجْهَيْنِ (أَلَا وَإِنَّ الشَّيْطَانَ) : وَهُوَ إِبْلِيسُ الرَّئِيسُ، أَوِ الْجِنْسُ الْخَسِيسُ (قَدْ يَئِسَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَيِسَ أَيْ قَنَطَ (أَنْ يُعْبَدَ) : أَيْ: مِنْ أَنْ يُطَاعَ فِي عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ عَبَدَهُ أَحَدٌ مِنَ الْكُفَّارِ (فِي بَلَدِكُمْ هَذَا) : أَيْ: مَكَّةَ (لَا أَبَدًا) : أَيْ: عَلَانِيَةً إِذْ قَدْ يَأْتِي الْكُفَّارُ مَكَّةَ خِفْيَةً (وَلَكِنْ سَتَكُونُ لَهُ طَاعَةٌ) : أَيِ انْقِيَادٌ أَوْ إِطَاعَةٌ (فِيمَا تَحْتَقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ) : أَيْ: مِنَ الْقَتْلِ وَالنَّهْبِ، وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْكَبَائِرِ وَتَحْقِيرِ الصَّغَائِرِ، (فَسَيَرْضَى) : بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمَجْهُولِ أَيِ: الشَّيْطَانُ (بِهِ) : أَيْ: بِالْمُحْتَقَرِ حَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الذَّنْبُ الْأَكْبَرُ، وَلِهَذَا تَرَى الْمَعَاصِيَ مِنَ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَنَحْوِهِمَا تُوجَدُ كَثِيرًا فِي الْمُسْلِمِينَ، وَقَلِيلًا فِي الْكَافِرِينَ، لِأَنَّهُ قَدْ رَضِيَ مِنَ الْكُفَّارِ بِالْكُفْرِ فَلَا يُوَسْوِسُ لَهُمْ فِي الْجُزْئِيَّاتِ، وَحَيْثُ لَا يَرْضَى عَنِ الْمُسْلِمِينَ بِالْكُفْرِ فَيَرْمِيهِمْ فِي الْمَعَاصِي.

وَرُويَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الصَّلَاةُ الَّتِي لَيْسَ لَهَا وَسْوَسَةٌ إِنَّمَا هِيَ صَلَاةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَمِنَ الْأَمْثَالِ: لَا يَدْخُلُ اللِّصُّ فِي بَيْتٍ إِلَّا فِيهِ مَتَاعٌ نَفِيسٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: (فِيمَا تَحْتَقِرُونَ) أَيْ مِمَّا يَتَهَجَّسُ فِي خَوَاطِرِكُمْ، وَتَتَفَوَّهُونَ عَنْ هَنَّاتِكُمْ وَصَغَائِرِ ذُنُوبِكُمْ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى هَيْجِ الْفِتَنِ وَالْحُرُوبِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ مِنْ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحَرُّشِ بَيْنَهُمْ " (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>