الْمَخْلُوقِينَ كَالْغَضَبِ وَالْحَيَاءِ وَالْمَكْرِ، وَالْمَعْنَى مَا أَخَّرْتُ وَمَا تَوَقَّفْتُ تَوَقُّفَ الْمُتَرَدِّدِ فِي أَمْرٍ أَنَا فَاعِلُهُ إِلَّا فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ، أَتَوَقَّفُ فِيهِ وَأُرِيهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهُ مِنَ النِّعَمِ وَالْكَرَامَاتِ حَتَّى يَسْهُلَ عَلَيْهِ وَيَمِيلَ قَلْبُهُ إِلَيْهِ شَوْقًا إِلَى أَنْ يَنْخَرِطَ فِي سِلْكِ الْمُقَرَّبِينَ، وَيَتَبَوَّأَ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ (يَكْرَهُ الْمَوْتَ) : اسْتِئْنَافٌ جَوَابًا عَمَّا يُقَالُ: مَا سَبَبُ التَّرَدُّدِ؟ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ بِمُقْتَضَى طَبْعِهِ الْبَشَرِيِّ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْمَوْتِ تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ يُوصِلُهُ إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ، فَكَيْفَ يَكْرَهُهُ الْمُؤْمِنُ؟ (وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: إِيذَاءُهُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ صُعُوبَةِ الْمَوْتِ وَكَرْبِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: أَكْرَهُ مَا يَسُوءُهُ؛ لِأَنِّي أَرْحَمُ بِهِ مِنْ وَالِدَيْهِ، لَكِنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ لِيَنْتَقِلَ مِنْ دَارِ الْهُمُومِ وَالْكُدُورَاتِ إِلَى دَارِ النَّعِيمِ وَالْمَسَرَّاتِ، فَعَلْتُهُ بِهِ إِيثَارًا لِتِلْكَ النِّعْمَةِ الْعُظْمَى وَالْمَسَرَّةِ الْكُبْرَى، كَمَا أَنَّ الْأَبَ الشَّفُوقَ يُكَلِّفُ الِابْنَ بِمَا يُكَلِّفُهُ مِنَ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ نَظَرًا لِكَمَالِهِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ اهـ. وَهُوَ خُلَاصَةُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ.
وَحَاصِلُ كَلَامِهِمْ أَنَّ إِضَافَةَ الْمُسَاءَةِ مَزْجُ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ كَرِهَهُ تَعَالَى لَمَا وُجِدَ فِي الْخَارِجِ، إِذْ وُجُودُ الْأَشْيَاءِ بِقُدْرَتِهِ وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى إِرَادَتِهِ، وَلَا مُكْرِهَ لَهُ تَعَالَى فِي إِبْدَاءِ مَصْنُوعَاتِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِسَاءَةَ مُضَافَةٌ إِلَى فَاعِلِهِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي إِرَادَتَهُ، كَمَا حَقَّقَ فِي مَحَلِّهِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالرِّضَا وَالْكَرَاهَةِ، فَإِنَّ بَعْضَ الْمُرَادِ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، بِالْمَعْنَى أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ لِكَرَاهَتِهِ الْمَوْتَ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكْرَهَ الْمَوْتَ بَلْ يُحِبُّهُ، فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ. وَكَذَا فِي أَصْلِ مِيرَكَ، وَهُوَ كَذَا فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ لِابْنِ الْمَلَكِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ كَمَا فِي رِوَايَةٍ: وَالْمَعْنَى، وَلَا بُدَّ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْمَوْتِ فَلَا مَعْنَى لِلْكَرَاهَةِ، أَوْ وَلِهَذَا لَا أَدْفَعُ عَنْهُ الْمَوْتَ، قَالَ تَعَالَى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: ١٩] (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قِيلَ: آخِرُ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، وَالْحُمَيْدِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَشَرْحِ السُّنَّةِ، وَلَيْسَ فِيهَا: (فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ) كَمَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَلَا زِيَادَةُ لِفْظِ (قَبْضِ) عِنْدَ قَوْلِهِ: عَنْ قَبْضِ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، وَلَا قَوْلُهُ: وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ، وَالْمَذْكُورَاتُ وَرَدَتْ فِي حَدِيثٍ رَوَى أَنَسٌ نَحْوَهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute