قُلْتُ: كَمَا يَدُلُّ عَلَى سِعَةِ مَغْفِرَتِهِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: " أَوْ أَغْفِرُ " قَوْلُهُ: " وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ ": بِضَمِّ الْقَافِ وَيُكْسَرُ، أَيْ: بِمِثْلِهَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْقُرْبِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: بِمَا يَقْرُبُ مِلْأَهَا مِنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ (خَطِيئَةً) : تَمْيِيزٌ (لَا يُشْرِكُ بِي) : حَالٌ مِنْ فَاعِلِ لَقِيَنِي الْعَائِدِ إِلَى مَنْ، (شَيْئًا) : مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ أُخِذَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: ١١٦] (لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً) : أَيْ: إِنْ أَرَدْتُ ذَلِكَ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: ١١٦] وَنُكْتَةُ حَذْفِهِ فِي الْحَدِيثِ اسْتِغْنَاءٌ بِعِلْمِهِ مِنْهَا، وَمُبَالَغَةٌ فِي سِعَةِ بَابِ الرَّجَاءِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَدِيثِ دَفْعُ الْيَأْسِ بِكَثْرَةِ الذُّنُوبِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْتَرَّ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْخَطَايَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَإِنَّهُ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ أَيِّهِمْ اهـ. أَيْ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ عَلَى الذَّنَبِ الْكَبِيرِ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ عَلَى الذَّنْبِ الْحَقِيرِ، أَوْ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّنُوبَ الْكَثِيرَةَ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ عَلَى السَّيِّئَةِ الصَّغِيرَةِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ مِنْ آخِرِ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا أَوَّلُهُ: فَفِيهِ التَّرْغِيبُ وَالتَّحْثِيثُ عَلَى الْمُجَاهَدَةِ فِي الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ دَفْعًا لِلْفُتُورِ وَالتَّكَاسُلِ وَالْقُصُورِ، فَالْحَدِيثُ مَعْجُونٌ مُرَكَّبٌ نَافِعٌ لِأَمْرَاضِ قُلُوبِ السَّالِكِينَ، وَمُحَرِّكٌ لِشَوْقِ الطَّالِبِينَ، وَمُقَوٍّ لِصُدُورِ الْمُذْنِبِينَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَلَّمَا يُوجَدُ فِي الْأَحَادِيثِ حَدِيثٌ أَرْجَى مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَتَّبَ قَوْلَهُ: " لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً " عَلَى عَدَمِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ فَقَطْ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَغْتَرَّ وَيَقُولَ: إِذَا كَانَ كَذَلِكَ أُكْثِرُ الْخَطِيئَةَ حَتَّى يُكْثِرَ اللَّهُ الْمَغْفِرَةَ، وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى ذَلِكَ كَيْلَا يَيْأَسَ الْمُذْنِبُونَ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لِلَّهِ مَغْفِرَةً وَعُقُوبَةً، وَمَغْفِرَتُهُ أَكْثَرُ، وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ أَنَّهُ مِنَ الْمَغْفُورِينَ، أَوْ مِنَ الْمُعَاقَبِينَ لِإِبْهَامِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: ٧] فَإِذًا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَإِنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ الْمَعْنَى، وَصَارَ كَالْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ - وَلِذَا كَفَرَ مُنْكِرُهُ أَنَّهُ - لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ جَمَاعَةٍ مِنْ مُوَحِّدِي هَذِهِ الْأُمَّةِ النَّارَ، ثُمَّ خُرُوجُهُمْ عَنْهَا، مَعَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ، وَهِيَ حَالَةٌ مُبْهَمَةٌ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، كَمَا فِي النُّسْخَةِ الْمُعْتَمَدَةِ: وَاغْتَرَّ شَارِحٌ بِنُسْخَةٍ سَقِيمَةٍ وَحْدَهَا مُخَالِفَةٍ لِذَلِكَ، فَاعْتَرَضَ بِسَبَبِهَا عَلَى الْمَصَابِيحِ بِمَا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ اهـ. وَلَمْ يَعْرِفِ الشَّارِحُ وَلَا وَجْهَ لِلِاعْتِرَاضِ فَهُوَ تَجْهِيلُ مَجْهُولٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، إِذْ لَيْسَ تَحْتَهُ مَحْصُولٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute