[توحيد الله في إلاهيته]
أما توحيد الإلهية فمعناه: توحيد الله بالعبادة بحيث لا يعبد إلا هو، ولا يدعى إلا هو، ولا تعلق الحوائج إلا به، ولا يشرع إلا هو، وهذا التوحيد يخطئ فيه أكثر الناس، فلذلك احتاج إلى بيانه أكثر مما سواه.
فمثلاً: في مجال العبادة لا يمكن أن يستحق العبادة إلا الخالق الرازق المدبر الحي القيوم الدائم الذي لا تخفى عليه طرفة عين، ولا يغفل، ولا تأخذه سنة ولا نوم، فهو وحده المستحق للعبادة، ولا يمكن أن يعبد من سواه أبداً.
ويدخل في العبادة السجود له، ولا يخالفه في ذلك إلا الذين يعبدون الأصنام أو يسجدون لها، وهؤلاء لا يلحدون في توحيد الربوبية؛ لأنهم يزعمون أن هذه الأصنام مملوكات لله، وإنما يتقربون بها إلى الله فقط، ولذلك قال الله تعالى حكاية عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣] , فهم لا يعبدون هذه الأصنام لأنهم يزعمون أنها خالقة، ولكنهم يعبدونها تقرباً إلى الخالق فقط، فهؤلاء يخالفون في توحيد الألوهية ولا يخالفون في توحيد الربوبية، ومثل هذا الذين يعبدون غير الله ببعض العبادات المخصوصة، فلا يصلون لغير الله ولا يصومون لغير الله، ولكن يذبحون لغير الله، مثل الذبح للأصنام، والذبح للقبور ونحوها، فهذا عبادة لغير الله؛ لأن الذبح عبادة مختصة لله، ولذلك قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:١٦٢ - ١٦٣].
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي جحيفة السوائي رضي الله عنه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن في صحيفة رسول الله صلى الله عليه سلم التي أعطاه: (لعن الله من ذبح لغير الله).
كذلك من العبادات النذر، فكثير من الناس لا يصلي إلا لله، ولا يصوم إلا لله، ولا يحج إلا لله، ولكنه ينذر لغير الله.
والنذر عبادة؛ لقول الله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:٢٩] , ولقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان:٧] , فمن نذر لغير الله فقد أشرك؛ لأن النذر عبادة مختصة لا تحل إلا لله، فهي مثل الصلاة والصوم والزكاة وغير ذلك.
ومن هنا احتيج إلى بيان معنى النذر الذي يجهله كثير من الناس، فالنذر معناه: إيجاب ما ندب تقرباً لله تعالى وشكراً له أن يتقرب الإنسان إلى الله بأن يلزم نفسه بطاعة مندوبة، فما ليس مندوباً من المباحات لا يمكن أن يكون نذراً، كمن نذر أن يشرب كأساً من الشاي، أو أن يشرب كأساً من الماء، فهذا لا يسمى نذراً؛ لأنه مباح وليس عبادة.
ومن نذر واجباً فقد كان واجباً قبل هذا ولم يستفد من النذر شيئاً، ومن نذر مندوباً فقد تأكد حكمه وازداد أجره بسبب نذره، ولكن هذا النذر ينبغي أن لا يكون مشروطاً، وأن لا يكون مكرراً، فالنذر المشروط هو الذي يقول صاحبه: إن نجحت في الامتحان فسأصلي ركعتين شكراً لله.
وينذر بذلك، أو: أتصدق بكذا.
أو: أحج.
أو: أصوم.
أو نحو ذلك، فهذا النذر المشروط أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا يرد من قدر الله شيئاً، وإنما ينتزع الله به من يد البخيل) , فالذي يفعله بخيل في تعامله مع الله، حيث يشرط على رب العالمين، فجعل نفسه بخيلاً بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، ولذلك لا يصدر من أهل الإيمان الكامل.
والنذر المكرر قد يوقع الشخص في حرج، كمن نذر أن يصوم يوم الإثنين دائماً، أو يوم الخميس دائماً، فربما أتاه ذلك اليوم وهو عاجز عن صيامه، أو مشغول بأمر لا يستطيع التخلص منه، فلذلك كره هذا النذر المكرر، وإنما يطلب النذر إذا أقبل الشخص على عبادة مندوبة، فأراد أداءها وتيسرت له أسبابها، فينذرها ليكون ذلك زيادة في الأجر، كمن يجلس في مصلاه وينتظر صلاة المغرب، ويعلم أنه ليس لديه شغل سيقيمه من هذا المسجد.
وقبل النذر قد كان الفعل مندوباً فصار واجباً يثاب عليه ثواب الواجب.
كذلك من العبادات التي يشرك فيها الناس الحلف، فالحلف عبادة، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت).
وكان الناس يحلفون بآبائهم في الجاهلية، فسمع رسول الله صلى عليه وسلم عمر بن الخطاب يحلف بأبيه فدعاه فقال: (لا تحلفوا بآبائكم! من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) , وكانوا يحلفون بأصنامهم في الجاهلية، فدأب بعض الناس على ذلك في الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا باللات ولا بالعزى، فمن قال ذلك فليقل: آمنت بالله) , فالحلف بغير الله عبادة لمن حلف به.
كذلك الشرك في التشريع فهو شرك في الإلهية، فالله وحده هو الذي يشرع لعباده ما شاء، وسبب ذلك أنه وحده العالم بحياتهم ومماتهم ومصالحهم الدنيوية والأخروية، ولا يعلم أحد منهم متى يموت، ولا في أي أرض يموت، ولا ما يكسب غداً، ولا يمكن أن يطلع على مصالحه هو، بل تخفى عنه، ولذلك نرى كثيراً من الناس يجتهد في أمر فيه له مضرة، يجتهد أن يسافر سفراً هو فيه على موعد مع ملك الموت، ويتحرك حركة معينة فينكسر منه عضو بسبب تلك الحركة، ويخرج لحاجة غير مهمة فيصادفه قدر من قدر الله يصيبه بمصيبة عظيمة، كل هذا يدل على أن الإنسان جاهل بمصالحه، ومن كان جاهلاً بالمصالح والمفاسد لا يمكن أن يشرع شيئاً؛ لأن التشريع أصله على معرفة المصالح والمفاسد، ولذلك قال الله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:١٤] , فالذي هو اللطيف الخبير بالناس هو الذي يستطيع أن يشرع لهم ويعرف مصلحتهم.
فإذا شرع شيئاً فأباح أو حرم أو أوجب فذلك لمصلحة بني آدم لا لمصلحته هو، فلا يصل إليه نفع ولا ضرر من ذلك، ولهذا قال الله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} [الحج:٣٦ - ٣٧] , فهذه الأنعام لا ينال الله لحومها ولا دماؤها، ولا يمكن أن يصل إليه نفع منها، ولا أن يوصل إليه المخلوق نفعاً ولا ضرراً، ولذلك جاء في الحديث القدسي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
فالتشريع من اختصاصات رب العالمين لا يمكن أن ينازعه فيها أحد، فمن شرع فقد أشرك، ولهذا قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:٢١] , فكل من سن قانوناً أو وضع تشريعاً مما لم يأت به محمد صلى الله عليه وسلم فقد أشرك مع الله عز وجل من شرع لهم.
ومن هنا فإن اليهود والنصارى الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مشركين، يشركون أحبارهم ورهبانهم في الإلهية؛ لأنهم يحلون لهم الحرام فيستبيحونه، ويحرمون عليهم الحلال فيتركونه، وهذا مقتض لعبادتهم، ولهذا قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} [التوبة:٣١] , وفي حديث عدي بن حاتم رضي الله أنه قال: (يا رسول الله! ما عبدناهم من دون الله! قال: ألم يحلوا لكم الحرام فتستحلوه؟ قال: بلى.
قال: ألم يحرموا عليكم الحلال فتتركوه؟ قال: بلى.
قال: فقد عبدتموهم) , وهذه عبادته، ولهذا جعل الله تعالى القوانين ديانة، فيسمى القانون ديناً، كما في قوله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:٧٦] , معناه: في قانون الملك {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف:٧٦]، فكل قانون غير شرع الله فهو دين أراد به صاحبه نسخ دين الإسلام وتغييره، فهو إشراك بالله العظيم عز وجل.
كذلك من الإشراك في الإلهية الإشراك في محبة الله عز وجل ومسألته، فإن الله وحده هو الصمد الكريم الغني الحميد الذي يستحق أن ترفع إليه الحوائج كلها، وأن ترفع إليه الأيدي في كل المطالب، فمن تعلق قلبه بمخلوق فأصبح يعلق به حوائجه ويخافه ويطمع فيه ويسأله فقد أشرك هذا الشرك، فدعوة غير الله مثل الاستغاثة بمخلوق أو مسألته أمراً لا يقدر عليه شرك بالله، كمن سأل مخلوقاً أن ينزل المطر، أو أن يكفر عنه ذنبه، أو أن يدخله الجنة، أو أن يجيب عنه الملكين، أو أن ينور له قبره، فهذه أمور لا يقدر عليها المخلوق، أو أن يرزقه ولداً أو مالاً أو نحو ذلك، فهذه أمور لا يقدر عليها المخلوق، فالخلق والرزق من عند الله وحده.
ومن هنا فإن دعوة المخلوق شرك بالله، ولهذا قال الله تعالى: {ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:١٣ - ١٤] , وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان:٦٨] , وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْ