إن العبد إذا أصيب قلبه باتباع الهوى فإنه يضل عن مصالحه في الدنيا والآخرة، فالصحابة كانوا يعلمون أن المدار على القلوب، وأن النجاة ببر القلوب، وأن العبد يسبق بقلبه وبأحواله الإيمانية أكثر مما يسبق به أصحاب الاجتهاد في الأعمال الظاهرة، كما قال ابن مسعود للتابعين: لأنتم أكثر عملاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنهم كانوا خيراً منكم؛ كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة، فيخبر ابن مسعود رضي الله عنه التابعين أنهم أكثر اجتهاداً في العبادة؛ فهم أكثر صلاة وصياماً وقياماً، ولكن الصحابة سبقوا ببر القلوب، فقد تهيأت لهم أحوال، وصاحبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعاصروا التنزيل، فارتفعت أحوالهم الإيمانية، فلا يمكن أن يسبقهم من بعدهم، وإن اجتهد أكثر من اجتهادهم في الصلاة والقيام وتلاوة القرآن؛ لأن السبق سبق القلوب.
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول فآيات الصدق والبذل والتضحية في جيل الصحابة رضي الله عنهم كانت مجيدة؛ لأن قلوبهم وصلت إلى درجة عالية جداً من الأحوال الإيمانية من محبة الله، والإخلاص لدين الله عز وجل والرضا بالله عز وجل رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبياً ورسولاً، فلما انتفعت قلوبهم، وحسنت أحوالهم الإيمانية، وجدت مواقف إيمانية في البذل والتضحية لله عز وجل، ووجدت الأعمال التي تصدق ما في القلوب من إيمان.
فلم يمكن للتابعين أو من بعدهم أن يلحقوا بهم أو يجدوا أثراً من غبارهم في ذلك، فقد سبقوا سبقاً بعيداً رضي الله عنهم، وذلك لأنهم عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد العابدين، قال بعض الصحابة: إن الله عز وجل نظر في قلوب الخلق فرأى قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو أنقى قلوب الخلق فاصطفاه الله عز وجل برسالته، ثم نظر في قلوب الخلق فرأى قلوب الصحابة رضي الله عنهم أنقى قلوب الخلق بعد قلب النبي صلى الله عليه وسلم فجعلهم وزراء نبيه، فارتضاهم الله عز وجل لصحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم إنهم ازدادوا صفاء، وإيماناً، ومحبة لله عز وجل وبذلاً لإعلاء دين الله عز وجل؛ لأنهم عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول أنس رضي الله عنه معبراً عن حال الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: ما نفضنا أيدينا من دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا، أي: بمجرد أن دفنوا الجسد الشريف تغيرت قلوبهم؛ لأنهم فقدوا مصدراً عظيماً من مصادر الصفاء النفسي، والعلو الإيماني الذي كانوا يجدونه بمعاشرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما حساسيتهم من الذنوب: يقول أنس رضي الله عنه: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات، وأنس رضي الله عنه لا يخاطب أمثالنا، ولكنه يخاطب الجيل المفضل الثاني بعد جيل الصحابة رضي الله عنهم، قال تعالى:{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}[الحج:٣٢]، وقال أيضاً:{وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}[الحج:٣٠].
فالمدار على القلوب، فقد خلقت لمعرفة علام الغيوب، وغفار الذنوب عز وجل، فلا تسعد إلا بذلك؛ لا تسعد بالجاه ولا بشهوات ولا بدنيا ولا بأعراضها ولا شهرتها ولا زينتها، قال عز وجل:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد:٢٨]، فلا تسعد إلا بالله، ولا تصلح إلا بالله عز وجل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، فالعبد الذي في قلبه غير الله لابد أن يشقى بذلك، فإن القلب مثل السماوات والأرض:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}[الأنبياء:٢٢]، فكذلك قلوب العباد لو كان فيها آلهة إلا الله عز وجل لفسدت بذلك فساداً لا يرجى له صلاح، حتى تعرف ربها عز وجل وتوحده عز وجل.