تعجز الإنسانية كلها أن تقوم هذه المشاهد، وأن تبين عظمة الأخوة في الإسلام، وإيثار الغير على النفس ولو كان في أمس الحاجة والاضطرار، وليس أشد من ماء في تلك اللحظات، مع ذلك كل يشفق على صاحبه ويقدمه على نفسه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ العظيم بقوله:(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد) ، وقال الله:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ}[الصف:٤] ، فهكذا أخوة الإسلام جعلت المجتمع الإسلامي حصناً مشيداً، وبنياناً مرصوصاً ليس فيه تخلخل ولا مدخل لعدو، وجعلت أبناء العالم الإسلامي بالتواد والتراحم والتعاطف كالجسد الواحد، فالأمة الإسلامية جسد واحد وهو جسد الإسلام؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له باقي الجسد بالسهر والحمى؛ لأنه جسم واحد يرتبط بعصب واحد وإحساس واحد.
لقد كان ذلك في بادئ الأمر، وكأن المال في يد أحدهم كأنه مال أخيه، كما جاء عن عبد الله بن عمر يقول:(كنا في زمن لا يرى أحدنا في ماله فضل على أخيه، واليوم الدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه) ، وإذا كان هذا القول صادر من ابن عمر وهو صحابي وفي ذاك الوقت، فماذا نقول نحن اليوم؟ إن أحوج ما تكون الأمة إليه اليوم هو العودة إلى التآخي والتراحم والتواصل فيما بينها.
وليس إيثار الغير على النفس من خصائص الأنصار فقط، بل كذلك من خواص المهاجرين، فقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها كانت ذات يوم صائمة، فجاء مسكين بعد العصر، فقال: مسكين يا آل بيت رسول الله، فنادت عائشة بريرة، فقالت: أعطي المسكين يا بريرة، فقالت: ليس عندي ما أعطيه، قالت: أعطي المسكين يا بريرة، قالت: ليس عندي ما أعطيه إلا قرص من خبز شعير تفطرين عليه إذا جاء المغرب، فقالت أم المؤمنين رضي الله عنها: أعطي المسكين، وإذا جاء المغرب يرزق الله فأعطته بريرة قرص الشعير وهي تتلكأ وتتغنى بقول عائشة: أعطي المسكين وإذا جاء المغرب يرزق الله، حتى وصلت إلى المسكين لم تسمُ بريرة إلى ما سمت إليه أم المؤمنين من قوة الإيمان واليقين بالله، والناس يتفاوتون في ذلك كتفاوت ما بين السماء والأرض، فجاء المغرب وقامت أم المؤمنين تصلي، وبريرة تعيد الكلمات، كأنها تعتب على أم المؤمنين فيما قالت وتصرفت، وما قضت أم المؤمنين صلاتها، إلا ورجل يطرق الباب، فذهبت إليه بريرة وأم المؤمنين تصلي، فرأت بجوارها شاة بقرونها، فقالت: يا بريرة! ما هذا؟ قالت: أهداها إلينا رجل والله ما قد رأيت مثلما أهدى إلينا قط مثل اليوم، قالت: كلي يا بريرة هذا خير من قرصك.
وهكذا الإيمان واليقين يصنع في قلوب أصحابه، ثم أعطتنا منهجا منهجاً وقاعدة، وقالت:(والله لا يكمل إيمان العبد ولا يقينه حتى يكون يقينه فيما عند الله أقوى من يقينه فيما هو في قبضة يده) وحقاً فإن ما كان عند الله لا يضيع، وما كان في قبضة اليد فليس بمضمون، قد يغصب منه، قد يمرض دونه، قد لا يملك منه شيئاً، وهكذا كان لعامل الأخوة قوة في الإيمان والشفقة على المسكين والضعيف.
وإذا جئنا إلى المجتمع المدني في ذلك الوقت، نرى أن أول مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وجد فيه مجتمعاً خليطاً فالمؤمنون مهاجرون ومواطنون، واليهود حاقدون، والمشركون الوثنيون ما أسلموا بعد، وفيه من يخفي كفره ويظهر إيمانه، فما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع قيادته لهذا المجتمع بأسره إلا بالأخوة في الإسلام؛ فقد آخى بين المسلمين، وأذهب الفوارق العرقية والجنسية والطبقية بينهم، وأصبح الكل إخوانا إخواناً في الإسلام، وضرب المثل الأعلى للأمة حينما جاءت الأحزاب في غزوة الخندق، وعقد صلى الله عليه وسلم لوائين؛ لواء للمهاجرين ولواءً للأنصار، وجعل على كل عشرة عريفاً، وعلى كل عشرة عرفاء رقيباً -تقسيم عسكري نظامي- فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي؛ لأن سلمان جاء من بلده يباع ويشرى حتى انتهى أمره إلى يهودي في المدينة، وكان يعمل في بستان صاحبه، حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم وقدم إلى المدينة بما رأى في كتب الأقدمين عندهم: أن آخر نبي يهاجر إلى بلدة صفتها كذا وكذا، فانطبقت الأوصاف على المدينة، فجاء ينتظر فيها النبي المنتظر، فقال الأنصار: سلمان منا،؛ لأنه كان ينتظر رسول الله كما كنا ننتظره، وقال المهاجرون: سلمان منا؛ لأنه قدم من خارج المدينة، فلما تشاحوا فيه حسم النبي صلى الله عليه وسلم الأمر قائلا:(سلمان منا آل البيت) كل يقول هو منا والرسول يرفع من شأنه، ويرفع من نسبه وحسبه ويلحقه بآل البيت وهو إنسان فارسي وليس فيه عرق عربي، ولكن تلك أمور مادية لم يلتفت إليها، بل نظر إلى إسلامه وإيمانه وما كان عليه رضوان الله تعالى على الصحابة أجمعين.