روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر)، الصبر أعظم عطاء؛ لذا قال:(والصبر ضياء) في الحديث الذي رواه مسلم من حديث الحارث الأشعري الطويل، (والصبر ضياء) أعظم ضياء وأعظم زاد للبلاء هو الصبر، وفي الحديث الذي رواه الترمذي بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال:(إن عظم البلاء مع عظم الجزاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط).
وهذا هو الصحابي الجليل الذي تعرض للفتن والأذى، حتى كاد -يوم أن عصفت الفتنة بقلبه- أن يفقد الصبر، إنه خباب بن الأرت رضي الله عنه، يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اشتد الأذى وزادت الفتن على رءوسهم في مكة في أول أمر الدعوة، فيأتي خباب بن الأرت إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليشتكي إليه الحال، وليرفع إليه الشكوى، فيقول خباب -والحديث رواه البخاري -: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو الله لنا؟ ألا تستنصر الله لنا؟ فقعد النبي عليه الصلاة والسلام وقد احمر وجهه، وقال: والله لقد كان يؤتى بالرجل من قبلكم فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع في مفرق رأسه فيشق نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه ولحمه، فما يصده ذلك عن دينه، والذي نفس محمد بيده! ليتمن الله هذا الأمر-أي: هذا الدين- حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
لقد أوذي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أشد الأذى فهذا بلال يؤخذ تحت حرارة الشمس المحرقة في أرض الجزيرة في مكة، على تلك الرمال المتأججة الملتهبة، فيرمى على ظهره، وتوضع الحجارة القوية الكبيرة على صدره، لماذا؟ لأنه قال: لا إله إلا الله، إنها الجريمة القديمة الحديثة إنها شنشنة أهل الباطل القديمة الحديثة؛ لأنه قال: ربي الله، ولكن بلالاً الذي تمكن الإيمان من قلبه جعله يستعذب العذاب في سبيل الله جل وعلا، وما برح بلال وما زال بلال على هذه الأنشودة العذبة الحلوة التي ما زالت ترن في أذن الزمان بعد هذه القرون الطويلة، وهو يرددها في وجه الباطل بقوة وثقة واطمئنان: أحد أحد، يعلن وحدانيته لله، ويعلن إيمانه بالله جل وعلا، ولو مزقوا جسده تمزيقاً وقطعوه إرباً إرباً، فليأخذوا الجسد وليمزقوه فالروح متعلقة بالله جل وعلا، واللسان لا يفتأ يذكر الله جل جلاله تحت سياط هذا العذاب، هذه والفتن.
وتعلمون ماذا فعل بآل ياسر بـ سمية، وبـ صهيب وبغيرهم حتى قالوا:(ألا تستنصر الله لنا؟) ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يطمئنهم بأن الحق وإن طال البلاء ظاهر ظاهر.
وهذا ابن مسعود رضي الله عنه -والحديث في البخاري ومسلم - يقول:(والله لكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم طرده قومه فأدموه، ونزف الدم على وجهه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، لقد فتن النبي صلى الله عليه وسلم وأوذي، لقد ابتلي النبي عليه الصلاة والسلام ووضع التراب على رأسه، ونزف الدم الشريف من جسده الطاهر ولكنه صبر؛ لأن الله أمره بالصبر:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ}[الأحقاف:٣٥]، فاستجاب لأمر الله، وصبر لوعد الله جل وعلا، إنه البلاء، إنها الفتن -أيها الأحباب- ولابد من الصبر، لابد من الصبر على كل هذه الفتن، وعلى كل هذه الابتلاءات، ورحم الله من قال: يا صاحب الهم إن الهم منفرج أبشر بخير فإن الفارج الله وإذا بليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو الله الله يحدث بعد العسر ميسرة لا تجزعن فإن الصانع الله والله مالك غير الله من أحد فحسبك الله في كل لك الله أسال الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم صبراً جميلاً، وأن يجمل طريق دعوتنا وإياكم بالصبر، إنه ولي ذلك ومولاه، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.