للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

عَطَاءٍ.

وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ اكْتِفَاءٌ بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عَنْ ذِكْرِ الْآخَرِ إذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ السَّرَابِيلَ الَّتِي تَقِي الْحَرَّ أَيْضًا تَقِي الْبَرْدَ وَمَنْ اتَّخَذَ مِنْ الْجِبَالِ أَكْنَانًا اتَّخَذَ مِنْ السَّهْلِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ.

وَأَمَّا سَتْرُ الْعَوْرَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ هَلْ وَجَبَ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالشَّرْعِ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: وَجَبَ سَتْرُهَا بِالْعَقْلِ لِمَا فِي ظُهُورِهَا مِنْ الْقُبْحِ، وَمَا كَانَ قَبِيحًا فَالْعَقْلُ مَانِعٌ مِنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ لَمَّا أَكَلَا مِنْ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَا عَنْهَا بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ تَنْبِيهًا لِعُقُولِهِمَا فِي سَتْرِ مَا رَأَيَاهُ مُسْتَقْبَحًا مِنْ سَوْآتِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا قَدْ كُلِّفَا سَتْرَ مَا لَمْ يَبْدُ لَهُمَا. وَلَا كُلِّفَاهُ بَعْدَ أَنْ بَدَتْ لَهُمَا وَقَبْلَ سَتْرِهَا.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: بَلْ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُ الْجَسَدِ الَّذِي لَا يُوجِبُ الْعَقْلُ سَتْرَ بَاقِيهِ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ الْعَوْرَةُ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا يَلْزَمُ مِنْ سَتْرِهَا حُكْمًا شَرْعِيًّا. وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ وَأَكْثَرُ الْعَرَبِ مَعَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ وُفُورِ الْعَقْلِ وَصِحَّةِ الْأَلْبَابِ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَيُحَرِّمُونَ عَلَى نُفُوسِهِمْ اللَّحْمَ وَالْوَدَكَ.

وَيَرَوْنَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْقُرْبَةِ، وَإِنَّمَا الْقُرَبُ مَا اُسْتُحْسِنَتْ فِي الْعَقْلِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: ٣١] .

يَعْنِي بِقَوْلِهِ: خُذُوا زِينَتَكُمْ، الثِّيَابَ الَّتِي تَسْتُرُ عَوْرَاتِكُمْ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا مَا حَرَّمْتُمُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مِنْ اللَّحْمِ وَالْوَدَكِ. وَفِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: ٣١] تَأْوِيلَانِ:

أَحَدُهُمَا: لَا تُسْرِفُوا فِي التَّحْرِيمِ وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ. وَالثَّانِي: لَا تَأْكُلُوا حَرَامًا فَإِنَّهُ إسْرَافٌ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ. فَأَوْجَبَ بِهَذِهِ الْآيَةِ سَتْرَ الْعَوْرَةِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ الْعَقْلُ مُوجِبًا لَهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَتْرَهَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ دُونَ الْعَقْلِ.

<<  <   >  >>