فمن ذلك أنه كان للمأمون خادم لوضوئه، فبينما هو يصب الماء على يديه إذ سقط الإناء، فغضب المأمون فقال له الخادم: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول:
وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ، [آل عمران: ١٣٤] قال: كظمت غيظي، قال: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران: ١٣٤]، قال عفوت عنك، قال: اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:
١٣]، قال: اذهب فأنت حرّ.
وأمر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بعقوبة رجل، فقال له رجاء بن حيوة: إن الله تعالى قد فعل ما تحبّ من الظفر، فافعل ما يحبّ من العفو، فعفا عنه.
العتبي: وقعت دماء بين حيّين من قريش، فأقبل أبو سفيان فما بقي أحد واضع رأسه إلا رفعه، فقال: يا معشر قريش، هل لكم في الحق أو فيما هو أفضل من الحق؟
قالوا: وهل شيء أفضل من الحق؟ قال: نعم العفو، فتبادر القوم فاصطلحوا.
قال المبارك بن فضالة: كنت جالسا في السّماط عند أبي جعفر إذ أمر برجل أن يقتل فقلت: يا أمير المؤمنين، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة ينادي مناد بين يدي الله عز وجل: من كانت له يد عند الله فليقم، فليتقدم فلا يتقدّم إلا من عفا عن مذنب». فأمر بإطلاقه.
وكان رجل شرّيب جمع قوما من ندمائه ودفع إلى غلام له أربعة دراهم أن يشتري بها من الفواكه للمجلس، فمرّ الغلام بباب مجلس منصور بن عمار وهو يسأل الفقير شيئا، ويقول: من دفع له أربعة دراهم دعوت له أربع دعوات، فدفع له الغلام الدراهم، فقال له منصور: ما الذي تريد أن أدعو لك؟ قال: أن يعتقني الله من رقّ العبودية، فدعا له منصور وأمّن الناس. قال: والثانية؟ قال: أن يخلف الله عليّ الدّراهم، فدعا له وأمّن الناس، قال:
والثالثة يا غلام؟ قال: أن يتوب الله على مولاي، فدعا له وأمّن الناس. قال: والرابعة يا غلام؟ قال: أن يغفر الله لي ولمولاي ولك يا منصور وللحاضرين، فدعا منصور وأمّن الناس، فرجع الغلام، فقال له مولاه لم أبطأت؟ فقص عليه القصة، قال: وبم دعا؟ قال:
سألت لنفسي العتق، قال: اذهب فأنت حرّ، قال: والثانية؟ قال: أن يخلف الله عليّ الدراهم، قال: لك أربعة آلاف درهم، قال: الثالثة؟ قال: أن يتوب الله عليك، قال تبت إلى الله عز وجل، قال والرابعة؟ قال: أن يغفر لي ولك، وللواعظ وللحاضرين، وقال:
هذه الواحدة ليست إليّ، فلما بات رأى في المنام كأن قائلا يقول: أنت فعلت ما كان إليك أتراني لا أفعل ما كان إلي! قد غفرت لك وللغلام ولمنصور وللحاضرين.
قال يحيى بن معاذ: يكاد رجائي لك مع الذنوب يغلب رجائي لك مع الإخلاص، لأني أعتمد في الإخلاص على الأعمال، وفي الذنوب أعتمد على عفوك، وقال السّلامي: [الوافر]
تبسطنا على الآمال إنا ... رأينا العفو من ثمر الذنوب