شِئْتُمْ فَلِي" وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْمِلْكَ; وَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: "هُوَ لَك يَا عَبْدُ" إثْبَاتَ الْمِلْكِ. فَادَّعَى خَصْمُنَا أَنَّهُ أَرَادَ إثْبَاتَ النَّسَبِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ إضَافَتَهُ إلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: "هُوَ لَك" إضَافَةُ الْمِلْكِ وَالْأَخُ لَيْسَ بِمِلْكٍ، فَإِذْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْحَقِيقَةَ فَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى إثْبَاتِ النَّسَبِ بِأَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى إثْبَاتِ الْيَدِ وَيُحْتَمَلُ لَوْ صَحَّتْ الرِّوَايَةُ أَنَّهُ قَالَ: "هُوَ أَخُوك" يُرِيدُ بِهِ أُخُوَّةَ الدِّينِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِعَبْدٍ لِإِقْرَارِهِ بِأَنَّهُ حَرٌّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْحَدِيثِ مَا ذَكَرَ بَعْضُ الرُّوَاةِ أَنَّهُ قَالَ: "هُوَ لَك" وَظَنَّ الرَّاوِيُّ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَخُوهُ فِي النَّسَبِ، فَحَمَلَهُ عَلَى الْمَعْنَى عِنْدَهُ فِي خَبَرِ سُفْيَانَ وَجَرِيرٍ الَّذِي يَرْوِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ: "لَيْسَ لَك بِأَخٍ" وَهَذَا لَا احْتِمَالَ فِيهِ، فَوَجَبَ حَمْلُ خَبَرِ الزُّهْرِيِّ الَّذِي رَوَيْنَا عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَوْلُهُ: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ" قَدْ اقْتَضَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إثْبَاتُ النَّسَبِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ، وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ لَا فِرَاشَ لَهُ فَلَا نَسَبَ لَهُ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: "الْوَلَدُ" اسْمٌ لِلْجِنْسِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "الْفِرَاشُ" لِلْجِنْسِ، لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْقَ وَلَدٌ إلَّا وَهُوَ مُرَادٌ بِهَذَا الْخَبَرِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا وَلَدَ إلَّا لِلْفِرَاشِ.
وَفِيمَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ آيَةِ اللِّعَانِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الزِّنَا وَالْقَذْفَ لَيْسَا بِكُفْرٍ مِنْ فَاعِلِهِمَا; لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا كُفْرًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مُرْتَدًّا; لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الزَّوْجُ كَاذِبًا فِي قَذْفِهَا فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَوَاجِبٌ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ كَافِرَةً بِزِنَاهَا، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ تَبِينَ مِنْهُ امْرَأَتُهُ قَبْلَ اللِّعَانِ، فَلَمَّا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا بِاللِّعَانِ وَلَمْ يَحْكُمْ بِبَيْنُونَتِهَا مِنْهُ قَبْلَ اللِّعَانِ ثَبَتَ أَنَّ الزِّنَا وَالْقَذْفَ لَيْسَا بِكُفْرٍ وَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْخَوَارِجِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ. وَتَدُلُّ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْقَاذِفَ مُسْتَحِقٌّ لِلَّعْنِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إذَا كَانَ فِي قَذْفِهِ كَاذِبًا، وَأَنَّ الزِّنَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْغَضَبَ مِنْ اللَّهِ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا جَازَ أَنْ يَأْمُرَهُمَا اللَّهُ بِذَلِكَ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُؤْمَرَا بِأَنْ يَدْعُوَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِمَا لَا يَسْتَحِقَّانِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يَظْلِمَهُ اللَّهُ وَيُعَاقِبَهُ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّهُ؟.
وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ قَذَفُوا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ، وَالْإِفْكُ هُوَ الْكَذِبُ وَنَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَجَمَاعَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ غَمٌّ شَدِيدٌ وَأَذًى وَحُزْنٌ، فَصَبَرُوا عَلَى ذَلِكَ فَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ صَبْرُهُمْ وَاغْتِمَامُهُمْ بِذَلِكَ شَرًّا لَهُمْ بَلْ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ لِمَا نَالُوا بِهِ مِنْ الثَّوَابِ وَلِمَا لَحِقَهُمْ أَيْضًا مِنْ السُّرُورِ بِبَيَانِ اللَّهِ بَرَاءَةَ عَائِشَةَ وَطَهَارَتَهَا وَلِمَا عَرَفُوا مِنْ الْحُكْمِ فِي الْقَاذِفِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute