فحين دبت في باطن الأعضاء، والتبست بمحاني الأحشاء سخّنت النار الطبيعية، وألهبت الحرارة الغريزية، وتحدّرت في أعماق الجسد تحدُّر العذب البارد على الكبد الحرّى، وسرت في أقطاره، وتمشت في مفاصله، فغلّت عادية البرد، وكسرت غائلة الرطوبة، وطردت الرياح، وشدت العصب، وأمّنت من وهْيِ توتيره، واسترخاء تركيبه، وأحمت بواطن الجوانح، وكوامن الأوردة، وبَذْرَقَتْ بالطعام إلى غور البدن، وقسمته بالسوية من بيت الغذاء، وهي غسول الجسم من عفونات الأخلاط، ونضوح المعدة من غوامض الأدواء، ثم أسلمت إلى وثارة المهاد، ولذة الرقاد الذي هو قوت النفس، وجِمام الأعضاء، وغذاء الروح، وراحة الجوانح، وبه تتم أفعال الطبيعة، ويجود الهضم، وتجوَّد أسباب الشهوة، لا سيما حين الجو دكْنٌ، ووجه الأرض أسمط، والقطر مرجَحِنٌّ سحائبه، معنقٌ لألواذ الجبال وسفوح الأطواد هيادبه؛ ترفَضُّ دموعه كأنها أعراف الخيل منشورةً، أو سلوك الجمان منثورةً، والجو في ممسّك طرازه قوس قزح يبكي بلا حزن، كما يضحك من غير فرح، فلهفي على شرخ الشباب، وريعان الحداثة، لقد سلبتنيه الأيام سلباً، وأخذته من يدي غصباً أغضّ ما كان عوداً، وأنضر ما كان غصناً، حين الأيام ليّنة الأجياد مواتية، والحظوظ من الملاهي متوافية، فيا بؤس الدهر الخؤون، والزمن الظلوم، كيف يمزج صفوه بالكدر، ونعيمه بالغِيَر حتى لا تقع مسرته إلا بالمساءة ممتزجةً، ولا تحدث طماعيته إلا إلى الكراهية مزدوجةً، بينا أجول في أفياء الشبيبة، وأميسُ في أردية الغرارة، بمرتع من العيش رغيد، وسعي على صدر الزمان حميد، إذ نزع إلى لئيم عادته، ودنيء سجيّته، فأبدلني من السكون قلقاً، ومن الرخاء ضيقةً، ومن السعة غمةً، ومن الأنس وحشةً
فأصبحتُ من ليلى الغداةَ كناظر ... مع الصبح في أعقابِ نجمٍ مغرِّبِ
لا جرم أن حال الأنس مستحيلة، وسطوة الحوادث مستطيلة، ومشاهد السرور عافية، ومعاهد البهجة بالية، ومشارع الدنيا متكدرة، ومحاسنها متنكِّرة. والطرف مخفوض بعد انبساطه، ومحزونٌ عقيب اغتباطه، قد جفت ألبان العاني والأقداح، وجفَتْ عن أحبتها الكؤوس والراح، والقلب يتقلب على أحر مساً من الجمر، وأشد لذعاً من الخمر، ترى العيش حماماً، والشمس ظلاماً، والحياة غراماً.
ما كنتُ أوفي شبابي كنهَ غرّتِهِ ... حتى مضى فإذا الدُّنيا له تَبَعُ
وعلى تذكار أيام الشبيبة، وزمان الشرب والبطالة قصَرنا هذا الجزء على نعت الخمر، واختلاف أنواعها وأحوالها، وعدد أساميها، وتحقيق اشتقاقاتها من اللغة، وسرقات الشعراء في معانيها، والله الموفق، وبيديْه المعونة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فأول ذلك أن الخمر مؤنثة، وجميع أسمائها، إما علامةً أو سماعاً، وربما ذكّروا الخمر في الشعر. قال الأعشى وذكَّرها، ثم رجع إلى التأنيث:
وكأنَّ الخمرَ العتيقَ من الإسفَن ... طِ ممزوجةٌ بماء زُلال
وقد يكون أن تلقى الهاء تشبيهاً بكحيل لأنها معتّقة، فهي مفعول بها في الأصل، كما يقال معقَّد وعَقيدٌ، والتأنيث في كلام العرب على ضربين: تأنيث حقيقي، وهو ما تحته فَرْجٌ، وتأنيث مجازي، وهو ضربين: منه ما له علم من الأعلام الثلاثة: الهمزة والتاء والألف المقصورة. ومنه ما لا علم في ظاهره، وإنما يؤخذ سماعاً كالنعل والعصا والشمس والأرض، إذا صغّرته زدت في مصغره الهاء كشميسة، ونُعيلة، وأريضة، إلا ثمانية أسماء كالحرب والدِّرع والقوس، تقول: حُريبٌ، ودُريعٌ، وقُويسٌ، ومن أمثالهم: تركته خبرَ قُويسٍ سهماً. وإنما صغروها بغير هاء لاشتهارها عندهم بالتأنيث. واحتيج إلى إفراد المؤنث لأنه فرع على المذكر، تقول: هو قائمٌ وقائمةٌ، كما أن الصفة فرع على الموصوف، والفعل فرع على الاسم، والعجمة فرع على العربية، والتعريف فرع على التنكير؛ وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غُلِّبَ المذكر على المؤنث لأنه أخف، كما قالوا: القمرين للشمس والقمر، والأبويْن للأب والأم.
والعرب تجترئ على تذكير مؤنث لا علم للتأنيث في لفظه، قال الأعشى: