للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بل سقى الله شرخ الشباب، ومألف الأحباب سقاءً يتولى مقاليد أمرها الصبا، فشقّت البروق لها جيوباً، ولطمت الرعود عليها خدوداً أزمان وجه الصبا طلق، وعيشة الشبيبة رغدٌ، والأحبة جيرةٌ، والشمل جميعٌ، والحياة غضةٌ، والزمان ربيعٌ، أحُلُّ جنات الشباب ألفافاً، وأركض في ميدان البطالة سادراً وأضرب في عمرة اللهو لاهياً تمرُّ الليالي والسنون ولا أدري، وتُجاريني الأيام في سَننِ الغيّ، فأجري من سُكرٍ إلى سكر، وأغدو من خُمارٍ إلى خمر، أجتليها حوليّة الميلاد، حمراء صافيةً، بمزاج غادية، من كفِّ غانية، حوراء هيفاء، غيداء لفّاء، ذات فرعِ واردٍ، وفمٍ بارد، وثدي ناهدٍ، وقدٍّ مائدٍ، لاثت حمرتها على قنوان النخيل، أو هدل العناقيد، وجلت عجرتها عن محاجر أغَنَّ، ولدته الظباء رِبْعيّةً وأرضعته الآرام وحشيّةً. فالقمر البدر يطلع من أسرَّتها، وقرن الشمس يشرق في سُنة وجهها، لها وجنتان تنافس فيها تفاحتان، وجيدٌ كأنه إبريق فضة، أو عنُق ظبية أُفلتت من شبكة القانص، وكأن أنفها قصبة دُرّ، أو حسام مهند، وقامتها جدل عنانٍ، أو خوط خيزران، قد ضُمّت إلى مِرطها لفّاوين يُقْعدانها إذا قامتْ ويجذبانها من ورائها إن تقدمت. سهلٌ خدّاها، بردٌ ثناياها، ناهدٌ ثدياها، فَعْمٌ ساعداها، منى النفس وهواها. أتناولها من كفها مخضّبة الأطراف كأنها أقلام لُجينٍ قُمِّعت ذهباً، تسحب أذيال شعاعها، وتجر رداء تلألئها فشاربها يكرع في ضياء الشمس أو يغِبُّ في نور القمر، حتى إذا سارت في البدن حُمَيّاها، وفغمت الخياشيمَ ريّاها كستِ الوجه نضرة النعيم، وألبست الخد حمرة التوريد، ومنحته صدق الحس، وذكاء الحدس، ورقّة البشَرة، وبِلّة الجلد القاحل، والجوف القفر الماحل، واحمرت الوجنتان، وماجت من الرطوبة الحدقتان، وقدحت زند الهوى في القلب الصلد، صبت لصوت الحمام، ولمعان البرق، وبكاء الغمام، ومعاهد الأحبة، وغادرت الجسم الخصيب الجناب رخيّ البال، ناعم الخواطر، حسن الظن، والعروق فاتحةٌ أفواهها لرضاع كاساتها كما تفتح الفراخ مناقيرها لزقِّ أمهاتها، وهي تسير في تجاويفها مسير القَطر في البلد القفر، وتتغوّر في أغوارها وأورادها تغوُّر الماء في خَلَلِ الكثيب، لا سيّما إذا استحثها السقاة بصوت الناي والعود، حيث السماء جلواء، والأرض خضراء، والماء صقيل الجِلباب، دمث التراب، والهواء فضفاض القميص، سلسال الندى، رَضراض الحصى، قد تضرجت خدود ورده، وتأوّدت قدود سروِه، وانتبهت جفون نُوّاره، وتبسمت ثغور أقاحيه، ومالت قامات الشقائق منثورة مطاردها، منظومة قلائدها، فكأنا في جنة الخلد، نُسقى خمرها من أكف حورٍ عينٍ، وإن شئت تعاطيتها معتّقة نضت جِدّة الدهر، وأَبلت شِرّة العمر، ومشى عليها الدهر وهو مقيد، فأذابت حوباءها، وأفنت أجزاءها، فلم تبق منها إلا أرواح بلا أشباح، حتى إذا بزلوها وثبتْ تِبريّة اللون، عطرية النشر وثوب الحية من الرمضاء، أو توقُّد المريخ في الظلماء، يناولنيها أحور أجيد، أغنٌّ أغيد، مُسبل العِذاريْن، مورّد الخدّين، أرقُّ من الهواء، وأصفى من زلال الماء، وأبهى من بدر السماء، مُتخنّثُ الأعطافِ دلالاً، مُنثني القدِّ اختيالاً، ذو حاجبٍ مُزجّجٍ، وطَرْفٍ أدعج، وثغر مفلّجٍ، وكفلٍ يترجرجُ

يغدو عليَّ بريقِه وبكأسهِ ... فيعلُّني بالكاسِ بعدَ الكاسِ

<<  <   >  >>