للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الغض منها، وإنما هو تعبير عن حقيقة تأريخية، هي أن الحميرية عربية أخرى، وهي حقيقة لا يجادل على صحتها أحد، كما أن الثمودية واللحيانية والصفوية والنبطية عربيات أخرى. وكل هذه العربيات، هي عربيات فصيحة بالنسبة لأصحابها؛ لأنها لغة التدوين عندهم، حيث لم يكن لأهل جزيرة العرب، لغة أدب واحدة، دوّن بها جميع الجاهليين، حتى نقول: إن النصوص الخارجة عليها، أي النصوص المدوّنة بلهجات أخرى، هي نصوص عوام وسواد، كتبوا بلغاتهم كما يكتب العامة بلغاتهم هذا اليوم، مع وجود العربية الفصيحة.

وأما قولهم: إن هذه اللغة العربية الفصحى هي لغة قريش، لإجماع العرب كافة على أن لغة القرآن هي لغة قريش، وعدم ظهور أحد أنكر هذا الإجماع، أو جادل فيه، رغم ما كان من الشعوبية الأعجمية ومن الشعوبية الحميرية، ومن الخصومات السياسية بين قريش وغيرها من قبائل مضر١، فقول لا يستند إلى حجج تأريخية جاهلية، بل هو يصطدم مع واقع النصوص الجاهلية الواصلة إلينا، وبعضها نصوص لا تبعد عن الإسلام بكثير، وقد كتبت كلها بلهجات تختلف عن هذه اللغة الفصحى التي نزل بها القرآن، وفي اختلافها عنها دلالة، على أن الشعوب التي تثبت تلك النصوص لم تكن تكتب بعربية القرآن. وفي هذه الدلالة تفنيد لقول من قال: "إن لهجة قريش هي الفصحى التي عمت وسادت في الجاهلية لا في الحجاز ونجد فحسب، بل في كل القبائل العربية شمالًا وغربًا وشرقًا، وفي اليمامة والبحرين، وسقطت إلى الجنوب وأخذت تقتحم الأبواب على لغة حمير واليمن، وخاصة في أطرافها الشمالية حيث منازل الأزد وخثعم وهمدان وبني الحارث بن كعب في نجران"٢، ثم إني لم أتمكن من العثور على هذا الإجماع الذي أجمع العرب كافة عليه، والذي لم يعارضه أحد حتى من الشعوبيين والحاقدين على قريش، وإنما وجدت القرآن، وهو خير الشاهدين يقول: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} ٣. و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ٤.


١ طه حسين: في الأدب الجاهلي "١٠٥".
٢ العصر الجاهلي، شوقي ضيف "١٣٤".
٣ النحل، الرقم١٦، الآية١٠٣.
٤ يوسف، الرقم١٢، الآية٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>