للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

سواء قلنا: إنَّ موجب ذلك عقد الأمان فقط؛ كما هو رأي أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله. أو قلنا: إنَّ المسلم لا يجوز له التعدي على دم الكافر ولا الاستيلاء على ماله إلا بسببٍ مشروعٍ، حتَّى إن كان حربيًّا، فأموال الكفار الحربيين لا تحلُّ إلا في ميدان الحرب والقتال غنيمةً للمسلمين. وهذا الذي يُفهم من أقوال جماهير الفقهاء، وهو الصواب الذي تؤيِّده الأدلة الشرعية والسيرة النبوية مع المخالفين، فقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام يلقون أعداءهم المشركين الحربيِّين في غير ميدان القتال، فلا يبادرون إلى سفك دمائهم ولا مصادرة أموالهم، بل يعاملونهم على أساس أنَّهم يملكون ما تحت أيديهم، فيشترون منهم، ويقبلون هديَّتهم.

وقد كان أهل مكَّة يُودِعونَ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أماناتهم، لما يعلمون من صدقه وأمانته - صلى الله عليه وسلم - (١)، فلم يخيِّب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظنَّهم فيه، ولا ضيَّع أماناتهم، رغمَ تلك الظروف الشديدة التي أحاطت به وأهمَّته، فقد اجتمعَتْ كلمةُ أكابر قريش ومجرميها على قتله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكن له إلا أن يتعجَّل الخروج من مكة سرًّا ومعه أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه، فأمرَ ابنَ عمِّه: عليَّ بنَ أبي طالبٍ رضي الله عنه؛ أن يقيم بعدَه في مكَّة ثلاث ليالٍ وأيامها، حتَّى يؤدِّيَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الودائع التي كانت عنده للنَّاس، حتَّى إذا فَرَغَ منها لَحِقَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - (٢).

وفي هذا دليلٌ ظاهرٌ على أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يستحلُّ أموال الكفار لِمُجَرَّدِ كفرهم، ولا يُجيز خيانتهم والغدر بهم؛ وإن كانوا في دار حربٍ


(١) «السيرة النبويَّة» لابن هشام (٣/ ١١).
(٢) أخرجه البيهقيُّ في «السنن الكبرى» (٦/ ٢٨٩) من طريق محمد بن إسحاق قال: أخبرني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة، قال: حدثني رجال قومي من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر القصَّة.
وقال ابن حجر في «التلخيص الحبير» (٣/ ٩٨): «رواه ابنُ إسحاق بسندٍ قويٍّ».
وقال الألباني في «إرواء الغليل» (١٥٤٦): «هذا إسنادٌ حسنٌ».
قلت: وهذه القصة مشهورة مذكورة في عامة كتب السيرة النبوية.

<<  <   >  >>