حلفت بأني لو أرى تبعاً لها ... ذئاب الغضا حُبَّت إليَّ ذئابها
وقال إسحاق بن إبراهيم: قرأت على الأصمعي شعر امرئ القيس، فلمَّا بلغت إلى قوله " من الطويل ":
أمن أجل أعربيةٍ حَلَّ أهلها ... بروض الشرى عيناك تبتدران
فقال لي: أتعرف في هذا البيت خبئاً باطناً غير ظاهر؟ قلتُ: لا. فسكت عني، فقلت: إن كان فيه شيءٌ فأفدنيه! قال: نعم، أما يدلك هذا البيتُ على أنه لفظ ملكٍ مستهين ذي قدرة على مايرد؟ - قال الأصمعي: ليس في وصف الدرّ شيءٌ أحسن من قول رؤبة " من الرجز ":
كأن خلفيها إذا ما درَّاً ... جروا هراش حرشاً فهرا
قال الأصمعي: أنشد رجلٌ بشاراً وأنا حاضرٌ قول الشاعر " من الطويل ":
وقد جعل الأعداء ينتقصوننا ... وتطمع فينا ألسنٌ وعيونُ
ألا إنما ليلى عصا خيزرانةٍ ... إذا غمزوها بالأكف تلينُ
فقال بشار: والله لو جعلها عصا مخٍ أو عصا زبدٍ، لما كان إلا مخطئاً مع ذكر العصا! ألا قال كما قلتُ " من الوافر ":
وحوراء المدامع من معدٍ ... كأن حديثها قطعُ الجنان
إذا قامت لسحبتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران
ينسيك المنى نظرٌ إليها ... ويصرفُ وجهها وجه الزمان
قال: وأنشدنا لنفسه يفخر بالعمى " من الطويل ":
عميتُ جنيناً والذكاءُ من العمى ... فجئتُ عجيب الظن للعلم موئلاً
وغاض ضياء العين للعقل رافداً ... بقلب إذا ما ضيع الناس حصَّلا
وشعر كنور الروض لاءمت بينه ... بقولٍ إذا ما أحزن الشعر أسهلا
وكان يقول: الحمد لله الذي ذهب ببصري! فقيل له: لم، يا أبا معاذ؟ فقال: لاأرى من أبغضُ.
وقال الأصمعي: كان بخلاء العرب أربعة كلهم شاعر: الحطيئة وحميد الأرقط السعدي وأبو ألسود الدُؤلي وخالد بن صفوان التميمي. فأما الحطيئة فإنه كان يرعى غنماً له وفي يده عصا، فصاح به رجلٌ يستضيفه: ياراعي الغنم! ففطن أنه ضيفٌ فقال: هذه عجراء من سلم! قال: إني ضيف. قال: للضيفان أعددتها. وأما حميد ألرقط فإن ضيفاً دخل إليه ليلاً فقال لامرأته: لك الويل والثبور، قومي إلى المشئوم، فأصلحي له! لإاصلحت له، فجعل الرجل يأكل ويقول: مافعل الحجاج؟ فلما فرغ قال حميد " من الطويل ":
يخرُّ على الاطناب من فرحٍ بنا ... هجفٌ لمخزون التحية باذلُ
يقول وقد ألقى المراسي للقرى ... أبن لي ما الحجَّاجُ بالناس فاعلُ
فقلت: لعمري ما لهذا طرقتني ... فكلُ ودعِ الأخبار ما أنت آكل
تدبّل كفاه ويحدر حلقه ... إلى الصدر ما ضُمَّت إليه الأنامل
أتانا ولم يعدله سحبان وائلٍ ... بياناً وعلماً بالدهر هو قائلُ
فما زال عنه اللقمُ حتى كأنه ... من العي لما أن تكلم باقل
وأما أبو الأسود فإنه كان له دكان وكان لايسع إلا موضع طبق، فمرَّ به أعربيٌ على فرس، فدعاه إلى طبقه، فدنا، فأكل فقال له: عندنا ما تحب، فتعال إذا شئت! وعمد أبو الأسود إلى شنةٍ يابسة فجعل فيها حصى وجعلها تحت ركبته، فلما مرّ به الأعرابيُّ قال له: ادن! فدنا، فقعقع أبو الأسود الشنة، فنفر الفرس بالأعرابي، فدق ترقوته. وأما خالد بن صفوان فإنه مرض، فوصف له الطبيب فروجاً، فقال: وما الفروج؟! ثمّ ألحّ عليه الطبيب، فاشترى فروجا فأكل بعضه، ودخل عليه رجلٌ من قريش، فخاف أن يأكل معه فقال خالد مبتدئاً: نتغدَّى بنصف هذا الفروج، ونتعشَّى بباقيه، ثمّ قال " من الطويل ":
تداري زماناً عارماً بصرُوُفه ... ومن لايداري عيشه ليس يعقلُ
فخرج القرشي وهو يقول " من الطويل ":
تعلمت ترنيق المعيشة بعدما ... كبرتُ وأعداني على البخل خالد
وأنشد للعباس بن الأحنف " من البسيط ":
أتأذنون لصبٍ في زيارتكم ... فعندكم شهوات السمع والبصر
لايضمر السُوء إن طال الجلوس به ... عفُّ الضمير ولكن فاسقُ النظر
وتذاكروا عنده شعر العباس بن الأحنف، فتسخَّطه وقال: والله ما يؤتى من جودة المعنى ولكنه سخيف اللفظ، ألا ترى قوله " من السريع ":