للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال: وقدمت من سفر على الرشيد، فاستبطأني، فقلت: ماألاقتني أرضٌ حتى رأيت أمير المؤمنين. فلَّما خرج الناس قال: مامعنى أقتني؟ قلت ما الصقتني بها ولا قبلتني. فقال: هذا حسنٌ ولكن لاتكلمني بين يدي الناس إلا بما أفهمهُ حتى أجد جوابه، فإذا خلوت فقل ماشئت، فإني أسألك عمَّا لاأعلمُ، وإنه يقبح بالسلطان أن يسمع ما لايدري، فإما أن يسكت فيعلم الناس أنه مالاقهم، أو يجيب بغير الجواب فيتحقق عندهم ذلك. فقلت: قد والله أفادني أمير المؤمنين من الأدب أكثر مما أفدته.

وقال: قال لي المأمون أيام الرشيد: لمن هذا البيت " من البسيط ":

ما كنت إلا كلحم ميت ... دعا إلى أكله اضطرار

قلت: لابن أبي عيينة المهلبي عبد الله. فقال: كلامٌ شريفٌ! ثم قال لي كأنه من قول الشاعر " من الطويل ":

وإن بقومٍ سوَّدوك لفاقةً ... إلى سيدٍ لو يظفرون بسيد

فقلت: والله جاء به الأمير وعجبتُ من فهمه مع صغر سنه.

وقيل: إن تاجراً قدم بغداد بعدل خمر سودٍ فبارت عليه، فقال عبد الله ابن مسلم بن جندب الهذلي " من الكامل ":

قلْ للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا صنعت براهبٍ متعبد

قد كان شمَّر للصلاة ثيابه ... حتى وقفت له بباب المسجد

فلمَّا قالها بضاعته.

وقال: لمَّا مات محمد بن سليمان بن علي الهاشمي دخلت على أخيه جعفر بن سليمان، وقد حزن عليه حزناً شديداً ولم يطعم ثلاثاً، فأنشدته لابن أراكة الثقفي " من الطويل ":

لعمري لئن أتبعت عينك مامضى ... من الدهر أو ساق الحمام إلى القبر

لتستنفذن ماء الشؤون بأسره ... ولو كنت تمريهن من ثبج البحر

وقلت لعبد الله إذ حنَّ باكياً ... تعزَّ وماء العين منحدرٌ يجري

تبين فإن كان البُكا ردَّ هالكاً ... على أحدٍ فاجهد بكاك على عمرو

ولا تبك ميتاً بعد ميتٍ أجنَّه ... عليٌّ وعبَّاسٌ وآل أبي بكر

قال: فأمر فجيء بالطعام وأكل من ساعته.

وقال: لما أوقع الرشيد بالبرامكة " من المتقارب ":

إذا ذُكر الشرك في مجلسٍ ... أضاءت وجوهُ بني بَرْمَكِ

وإن تُلْيت عندهمُ سُورةُ ... أتوا بالأحاديث عن مزدك

وقال الفضل بن الربيع " من الكامل ":

انظر إلى ابن الفاعلين وكبره ... حتى كأن أباه عبدُ مناف

لاذنب لي فيه ولكن للذي ... وضع اللئام مواضع الأشراف

قال: وسألني الخليل بن أحمد عن قول السمؤل " من الخفيف ":

ينفع الطيب القليل من الرز ... قِ ولاينفع الكثير الخبيت

ما معنى قوله الخبيث؟ فقلت: اليهود تُبدل الثاء تاء، وإنما أراد الخبيث. قال: فلم لم يقل الكتير؟ فسكت.

قال: وأنشدت قاضي المدينة محمد بن عمران الطلحي قول أبي الشمقمق " من السريع ":

يا أيها السائلُ عن منزلي ... نزلتُ في الخان على نفسي

آكل من مالي ومن كسرتي ... حتى لقد أوجعني ضرسي

يغدو عليَّ الخبزُ من خابزٍ ... لايقبل الرهن ولا ينسي

فقال: إن هذه الملح إنما تعجب عقلاء الرجال، اكتبها! فقلت: أصلحك الله! إنما يروي هذه الأحداث. فقال: ويحك الأشراف تعجبهم الملاحة! وقال إسحاق بن إبراهيم: قال لي الأصمعي ونحن نريد الرقة مع الرشيد: كم حملت معك من كتبك؟ قلت: خففَّت فحملت ثمانية عشر صندوقا. فقال لي: أو هذا تخفيف؟ هذا نهاية التثقيل! - وأنشد إسحاق بن إبراهيم الأصمعي قوله في غضب المأمون عليه " من البسيط ":

يا سرحة الماء قد سُدَّت مواردهُ ... أما إليك طريقٌ غير مسدود

لحائم حامٍ حتى لا حيام به ... مُحَلاٍّ عن طريق الماء مطرود

فقال الأصمعي: أحسنت في الشعر غير أن هذه الحاءات، لو كانت اجتمعت في آية الكرسي لعابتها! - وأنشد الأصمعي " من الوافر ":

وقالوا: يا جميلُ أتى أخوها ... فقلت: أتى الحبيب أخو الحبيب

أحبك والقريبُ بنا بعيدٌ ... لأن ناسبت بتنة من قريب

وقال الأصمعي: أنشدني أبو عمرو " من الطويل ":

أرى كُلَّ وادٍ أوطنتها وإن خلت ... لها حججٌ يندى بمسك ترابها

<<  <   >  >>