للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[٣ - دليل الفطرة]

إن من طرق العلم ومفيداته التي توصل بها المرء إلى العلم بشيء من الأشياء، هو معرفته الوجدانية، وإحساسه الداخلي، وشعوره المتمثل في ألمه وفرحه وحزنه ورضاه وسعادته، وهذا الوجد والشعور مما فطر عليه البشر، ولذا فهم يسعون إلى ما يُلائم طباعهم الفطرية البشرية، ليستجلبوا أبواب السعادة والرضا.

ولما كانت هذه الحياة الدنيا مليئة بالمنغصات والمكدرات التي ربما أحلت السخط مكان الرضا، والبغض مكان الحب، والتي ربما عجز البعض عن إيجاد سبل للمواءمة بين يؤملون، مع ما طبعت عليه الحياة من الأكدار:

طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفواً من الأقذار والأكدار

ومتكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار (١).

فلما كانت طبيعة الحياة الدنيا قائمة على الكبد والمنغصات سعت النفس البشرية بما فطرت عليه للتطلع إلى حياة خالدة ولو في غير هذا العالم، تحيل السعادة فيها محل الشقاء، والفرح محل الحزن، والرضا محل السخط، والحب محل البغض، فجاءت الأديان السماوية تبشر بوجود حياة أخرى بعد الموت مليئة بكل معاني الفرح والحبور والسرور لمن أحسن العمل في دنياه. فهذا الشعور العام الذي ينازع النفس ويخالجها، دال على وجود حياة ثانية (٢).

ومن سرد هذه الأدلة يُعلم: أن أصل الجزاء على الأعمال خيرها وشرها ثابت بالعقل وواقع بالسمع، فإن الله نبه العقول إلى ذلك في مواضع كثيرة من الكتاب وذكر بما هو مستقر في العقول الصحيحة من أنه لا يليق بحكمة الله وحمده أن يترك الناس سدى، أو أن يكونوا خلقوا عبثاً لا يؤمرون ولا ينهون ولا يثابون ولا يعاقبون، وأن العقول الصحيحة تنكر ذلك أشد الإنكار وهذا شيء مشاهد محسوس (٣).


(١) هذان البيتان من قصيدة لأبي الحسن علي بن محمد التهافي يرثي بها ابنه أبا الفضل، انظر: علي بن الحسن الباخرزي: دمية القصر وعصرة أهل العصر، دار الجيل - بيروت، ط ١١٤١٤ هـ (١/ ١٤٠).
(٢) منظور رمضان: منهج القرآن في إثبات عقيدة البعث، بحث منشور في موقع جامعة أم القرى، دون ذكر تأريخ، ص (١٠٧).
(٣) السعدي: التنبيهات اللطيفة، دار طيبة - الرياض ن ط ١ ١٤١٤ هـ، ص (٨٦)

<<  <   >  >>