قال: ورحل السلطان ظهر يوم الثلاثاء والتوحيد ظاهر على التثليث والطيب قد امتاز عن الخبيث ونزلنا بأرض لوبية عشية وأصبح سايرا إلى عكا (فساء صباح المنذرين) ولما أشرفنا عليها بفتحها فما كان فيها من يحميها وما صدقنا كيف نمتلكها ونحويها وظهر أهلها على الأسوار لإظهار الممانعة وخفقان ألويتها يشعر بقلوبها الخافقة وأرواح جلدهم الزاهقة ووقفنا نتأمل طلولها ونأمل حصولها وخيم السلطان بقربها وراء التل ولبث عساكرها في الحزن والسهل وبتنا تلك الليلة وقد هزتنا الأطراب كأنما دار علينا الشراب والسلطان جالس ونحن عنده وهو يحصي جنده ويقدح معهم في اقتباس الآراء زنده ومنا من يستسح رفده ومنا من يستنجر وعده ويواصله بالدعاء ويشافهه بالهناء إلى أن نادانا ابن ذكا فلبينا ونادينا العسكر فعبيناه ووقفنا بإزاء البلد صفوفا وأطلنا على أطلاله وقوفا فخرجوا إلينا رجالا ونساء وأكثروا ضراعة ودعاء وبذلوا الأذعان وطلبوا الأمان فأعطيناهم الأمان على الأنفس من المال والأنفس وخيرناهم بين المقام والترحيل والسكن في وطنهم والتحول فشرع معظمهم لشدة الخوف في التنقل وأرخينا لهم طول التمهل وفتحوا يوم الجمعة في مستهل جمادى الأولى بابها ودخلنا لإقامة الجمعة وزادوا في الدخول عدة من المتطوعة وجماعة من الطمعة وأخياف من الأتباع لا تخاف من التبعة فما منهم إلا من ركن على دار رمحه وأسام فيها سرحه فحطوا على دور أخلاها أربابها وأموال خلاها أصحابها (٢٣٣أ) وجينا إلى كنيستهم العظمى وحضر الأجل الفاضل فرتب بها المنبر والقبلة وهي أول جمعة أقيمت بالساحل وكان الخطيب والأمام فيها عبد اللطيف بن الشيخ أبي النجيب ولما رآه السلطان أتقى وأزكى ولاه مناصب الشريعة في عكا فتولى القضاء والوقف والحسبة والخطبة وفوض عكا وضياعها ومعاقلها وقلاعها إلى ولده الأكبر الملك الأفضل نور الدين علي وجعل للفقيه ضياء الدين عيسى بن محمد الهكارى كل ما كان للداوية من معيشة وأقطاع ودور ورباع فتصرف فيها وحصل على حواصلها وعلق بكراميها وعقايلها ووقع في مراعيها المربعة نوابه وأثرى بثراه وثروتها أحابه وولجوا المخازن واستخرجوا الدفاين وكذلك ماليك الملك الأفضل وولاته ونوابه نشبوا المخازن وفتشوا المزاكن واستباحوا الخزون والمدفون والمحروس والمصون ومن جملة ذلك أنهم احتاطوا بغير علمي على دار باسمي فباعوا منها متاعا بسبعمائة دنار فإنها كانت من أنفس العقار وإنما وصفت هذا لعلم ما غنموه وما التهبوا على حيازته والتهموه، وتصرف الملك تقي الدين في دار السكر فاقتفى قنودها واستوعب موجودها وقد أشرت إلى هذا المعنى في كتاب الموسم بالفتح القدسي وقرئ على السلطان منه ليلة ونحن بالقدس سنة ثمان وثمانين وسمع ولو ذخرت تلك الذخاير وجمع لبيت المال المجموع الوافر لكان عدة ليم الشدايد وعدة لنجح المقاصد فقال السلطان: هذه رفيعة على ثلاثة اثنان منهما في جوار الرحمة والآخر باق في مقر العصمة يعني بالاثنين الفقيه عيسى وتقي الدين وبالآخر الباقي ولده نور الدين ولعمري هو كما ذكره لكن الملك الأفضل نور الدين ما حصل له بخاصة بل لذوي اختصاصه بالحالة التي شاهدتها.
عاد الحديث وأقام السلطان بخيمة على عكا أياما وأعلى بالمنى أعلام وكان يوم فتح حطين قد كتب إلى أخيه الملك العادل سيف الدين بما من الله به على الإسلام والمسلمين من الظفر والتأييد والتمكين فوصل بعسكره ورعيله ومعشره وجاء كتابه مبشرا بوصوله ومذكرا بسؤله وأنه فتح في طريقه بمن صحبه من فريقه الحصن المعروف بمجدل يافا وأنه حاز منه الغنايم والسبايا وأنه مجد في طي السهول والحزون وفتح ما يستقبله من الحصون فسطر جوابه وشكر صوابه وأنه يقيم في ذلك الجانب جامعا للكتايب ليجتمع به الواصلون من مصر الآملون معه النصر. وتوجه عدة من الأمراء إلى الناصرة وقيسارية والبلاد المجاورة لعكا وطبرية وأبوا بالغنيمة والسبى خير أوب وجاءونا بكل مليحة مليحة متعبة مريحة مقبلات أوايب طويلات الذوايب ثقيلات الروافد خفيفات المعاطف فكم أجد الله لنا من نعمى هنيئة وأمددنا من حبى سنية فما إلا من أنفض وغضب وفي كل يوم فتح عتيد وتأييد يتبعه تأييد.