على أنه ربما اتفق -في النادر الذي لا يقع يمثله حكم -للبليغ في صناعة النثر، معنى انتظمه الشعر، فتكون لمنثوره لوطة بالقلب، وتعلق بالنفس، ليس لمنظومه، كما قال بعض المتقدمين في وصف جارية: "كاد الغزال يكونها، لولا الشذى، ونشوز قرنه" فنثر هذا، بعض البلغاء فقال: "كاد الغزالي يكونها، لولا ما تم منها ونقص منه" ولعمري إن هذه، ألفاظ رطبة عذبة، لكن القضية تقع على ما يوجه الأكثر، وبالمنظوم سبقت العرب إلى وصف الطلول والآثار، والبكاء على معالم الديار، وتأبين ما تعفى من مراسمها بالرياح، والأمطار، ووصف ما محته الأيام من محاسن صورها، وطوته بالبلى من أردية مغانيها، وأحالته من أعيان معانيها، وما اختلقته العهاد من جديد معاهدها، وأبقته الأنواء من أواريها وأوتادها، ولعبت به الحوادث من ملاعبها، وأبدعته من وصف بالي من آياتها بالبهجة والنضرة والتضوع بنسيم الأحبة، واستضحاك رسومها بعد خلوها من ساكنها كما قال الأخطل: الطويل:
لا سماء محتل بناظرة البشر ... قديم ولما يعفه سالف الدهر
يكاد من العرفان يضحك رسمه ... فكم من ليال للديار ومن شهر
وقال آخر منسرح:
شطت بهم عنك لية قذف ... غادرت الشعب غير ملتئم
واستودعت نشرها الديار فما ... تزداد إلا طيباً على القدم
٩- قال أبو علي: وأحسب أن أول من أشار إلى هذا المعنى، أبو صخر الهذلي في قوله الطويل:
لليلي بذات الجيش دار عرفتها ... وأخرى بدار البين آياتها سطر
كأنهما م الآن لم يتغيرا ... وقد مر للدارين من بعدنا عصر
فأخذ أبو نواس هذا المعنى فقال وأحسن طويل:
لمن دمن تزداد طيب نسيم ... على طول ما أذوت وحسن رسوم
تجافى البلى عنهن حتى كأنما ... لبسن على القواء ثوب نعيم
إلى غير ذلك مما تصرفت فيه، من مذاهب الكلام، في ذم الشيب، ومدح الشباب، وتشوق الأحباب، وتقييد المآثر والأنساب، والحنين إلى الأوطان، والتفجع على الجيران، ونعيق الغربان، والتشوف بالنيران، وضرب الأمثال، والفخر بمعالي الأفعال، ومقارعة الأبطال، وذكر الوقائع والحروب والأيام، والتمدح بقرى الضيفان، ومنازلة الفرسان، وطعن الكماة واقتناص الأقران، وبذل المال، وحماية الجار، والتخرق في العطاء، والإيثار بالبلغ، والجود بالنفس عند اللقاء، ووصف الإبل في فري الغلاة، وهتك جلابيب الظلماء، وامتطاء مطا البيداء، ونعتها بالضمور، والنحول، وغئور العيون، وجزع المجاهل، وطيء المناهل، ونعت الخيل في خلقها بالعتق الكرم، وفي خلقها بمعرفة الوحي والإشارة، وتشبيهها بالسباع في سعة جلودها ووثبها، وبالنعام بطول قوائمها، وسعة فرها، وبالحمار في تلاحك خلقه، وشدة خلقته، وبالظباء في أطر عراقيبها، وبالعقبان والطير في انقضاضها، وتمثيل سرعتها بوشك الفراق، وجري السيل، وتضرم الحريق، وإنبات الدلو، وتدهدي الحجر، وغليان المرجل، وهزيز الريح، وذكر المياه العذبة، والآجنة، وممادح الملوك وأهاجيها، وتأبين الأموات ومرائيها، ومدح الجود والتحلي به، وذم البخل والإشفاء منه، والتشبيب والغزل، ومحادثة النساء، وذكر الوفاء لهن، والإقامة على عهودهن، ووصف خلقهن وأخلاقهن، وآبائهن وانقيادهن، وذكر الوفاء بهن، وحسن الوصف، ودقة المعنى، وصواب المصدر، والقصد للحاجة، واستنطاق الربع، وإنطاق القلب وترجيع الشك في موضع اليقين، وطلاوة الاعتذار.
(١) مثال ذلك:
وقلت أشمس أم مصابيح بيعة ... بدت لك خلف السجف أم أنت حالم
وعطف المساءة على العذال:
لا تلمن وأنت زينتها لي ... أنت مثل الشيطان للإنسان
وتبخيل المنازل واختصار الخبر:
ألم تسأل الأطلال والمتربعا ... ببطن حليات دوارس بلقعا
يبخلن أو يخبرن بالعلم بعدما ... فكأن فؤاداً كان قدماً مفجعاً
وأيسر النوم:
نام صبحي وبات نومي أسيراً