للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ماكان أحوجني يوما إلى رجل ... في وسطه ألف دينار على فرس

في كفه حربة يفري النفوس بها ... وسيفه كلهيب النار في الغلس

فإن رجعت ولم أظفر بمهجته ... وقد خضبت ظباة الصارم الضرس

فلا هنيت بعيش وابتليت بما ... يكون فيه خروج الروح والنفس

فبلغ قوله هذا أبا نواس فأنشأ يقول:

ماكان أحوجني يوما إلى خنث ... تجري ملاحته في الروح والنفس

في كفه قهوة تشفي النفوس إلى ... سحر بعينيه للألباب مختلس

فإن رجعت ولم أظفر بتكته ... وقد رويت من الصهباء كالقبس

فلا هنيت بعيش وابتليت بما ... يكون فيه صدود الشادن الأنس

هذا ألذ وأشهى من منى رجل ... في وسطه ألف دينار على فرس

٢٤- أبو هفان: حدثت ان أبا نواس بعث غلاما يقال له إسحق إلى عمرو الوراق يستهديه قرانة نبيذ فحبس الغلام ساعة ثم بعث إليه بقنينة فلما وافاه كتب إليه أبو نواس:

بعثت أستهديك قرانة ... فجدت يا عمرو بقنينة

وبعد ذا إن غلامي أني ... به انكسار وبه لينة

تخبرني وجنته انه ... قد طعن السكين في التينة

فابعث بأخرى تلك مهر له ... لا يعتدي في كفه طينة

قال: فضحك عمرو ونقل إليه جميع ما يحتاجه من النبيذ وصار إليه معتذرا مما كتب إليه به.

٢٥- أبو هفان قال: حدثني يوسف ابن الداية: أن أبا نواس خرج إلى الخصيب بن عبد الحميد وهو يومئذ بمصر وكان بها ثلاثة غلمان أحداث أقران حسان الوجوه كأنهم الطواويس أصحاب ظرف وأدب ومروءة وأحوال جميلة ولم يكن أحد بمصر يتقدمهم صباحة وملاحة وكمالا، وكان أحدهم من ولد شبث بن ربعي التميمي والآخران أخوان من أولاد الدهاقين فلما رآهم أبو نواس أعجبه ما رأى من حسنهم وجمالهم فاحتال في التخلص إليهم بكل حيلة فأعياه ذلك فلما صرح به اليأس عن الوصول سمع بعضهم يقول للآخرين، إذا كان يوم الأحد اصطحبنا. فلم يزل يتوقع ذلك اليوم، فلما كان بكر ولبس جبة صوف وحلق رأسه وشيئا من لحيته وأخذ كرزنا له وترصدهم في السوق كأنه حمال فلما أقبلوا عليه تبعهم إلى الموضع الذي يبتاعون منه حوائجهم فخف بين أيديهم وقال: أنا حمال، فقالوا: دونك، فحمل لهم، فلما صار إلى مستقرهم وضع عنه الكرزن وفرغ كل شيء كان معه ثم تخفف لهم في جمع حطب فأجج نارا وطبخ لهم قددا فعجبوا من طيبها وقالوا له: أطباخ أنت؟ قال: لم أزل قديما، ثم نظر إلى قناني لهم وأقداح علاها الغبار فبادر وأخذها ثم اعتزل ناحية فجلاها ونظفها وكنس مجلسهم وأصلح ركواتهم ونضد رياحينهم وحسر عن ذراعيه يسقيهم ويغنيهم وينشدهم تارة وينقر لهم طنبورا أخرى فأعجبوا به لما رأوا من تقدمه في كل شيء فقالوا له: يا حمال أقم عندنا اليوم، فقال: أنا عبدكم وخادمكم وقد ترون ما بي من العري وسوء الحال وإن كسوتموني خلقا من أطماركم استوجبتم من الله عز وجل الثواب، ومني الشكر والدعاء وواريتم مني ما ترون - وإنما أراد ان يستغويهم ويلبس عليهم الحال لئلا يفطنوا به في مقامه عندهم - فقالوا له: نفعل وكرامة ونحسن إليك ونكرم مثواك فطب نفسا. فقعد معهم فلما تغدوا صب على أيديهم الماء وسقاهم الخمر قبل ذلك على الغمر ثلاثة ثلاثةً وتمثل لهم بهذا البيت وهو له:

ثلاثة على الغمر ... تترك الوجه كالقمر

<<  <   >  >>