أجل.. إن أبرز الملامح في شخصية الرشيد- كما تصوره روايات الأصفهاني- هو ذلك الصراع النفسي الذي يوزع كيانه بين الرصانة والخلاعة.. وقد رأيت مَثَل الأولى في غضبته البركانية حين رأى من أحد جلسائه ما يوهم الاستخفاف بالخبر النبوي، على حين تراه في موقف آخر متهالكا مسلوب الإرادة قد أخذه الشراب والطرب حتى ليتعرى من ثيابه فيخلعها على مغنيه، كما سبق لأخيه موسى الهادي ذات يوم وقد استخفه الطرِب فلم يتمالك أن تملص من در اعته، وحكَّم المغني في جائزته، فطلب أن يُقطعه عين مروانَ بالمدينة، ثم لم يتخل عن ذلك الطلب إلا بعد أن أطلق الهادي يده في بيت مال الخاصة فكانت الفدية خمسين ألف دينار! ٨٤/٥ أ-١٨٥. ومثل هذا السفه هو المرتكز الأساسي في مرويات الأصفهاني، وحسبك من ذلك الخبرُ الذي يريك الخليفة وقد طاش وعيه من السكر والانتشاء إذ سمع لحنا غناه به إبراهيم فلم يجد ما يكافئه عليه بأقل من (الهنيء والمريء) وهما ضيعتان مشهورتان من أعمال الرقة وتُسقيان من الفرات. يقول المغني إبراهيم: (فلما أصبحت عُوّضتُ عنهما مئتي ألف درهم- أي اثنين وعشرين ألف دينار- مقابل غنائه ليلة واحدة، ولعله لم يزد عن بيت واحد ٠٠/ ١٦٦.
وسواء صحت هذه الأخبار المحيرة أم ضعفت فمما لا يتسع للخلاف أنها تعكس واقعا له جذوره، التي نمت وتفرعت حتى تركت طابعها على الكثير من جوانب ذلك المجتمع المتناقض..