للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ودخل نقفور وعامة عسكره طرسوس في منتصف شهر شعبان عام ٣٥٤ هـ، فأخذ كل واحد من الروم دار رجل من المسلمين بما فيها، ثم يتوكل ببابها، ولا يطلق لصاحبها إلا حمل الخفّ، فإن رآه قد تجاوز منعه، حتى إذا خرج منها صاحبها دخلها النصراني، فاحتوى على ما فيها. ونصب نقفور علمين، علم يشير إلى الإسلام، وعلم يشير إلى النصرانية، وطلب من أهل المدينة أن من أراد الخروج إلى بلاد الإسلام، فليقف تحت العلم الأول، ومن اختار البقاء تحت حكم الروم فليقف تحت الثاني. وقد قدر عدد الذين خرجوا بمائة ألف ما بين رجل وامرأة وصبي. وحدث أثناء الخروج من المواقف المحزنة الكثير. فقد تقاعد بالمسلمين أمهات أولادهم لما رأين أهاليهن، وقالت: أنا الآن حرّة، لا حاجة لي في صحبتك، فمنهن من رمت بولدها على أبيه، ومنهن من منعت الأب من ولده، فنشأ نصرانيا. فكان الإنسان يجيء إلى عسكر الروم، فيودع ولده، ويبكي، ويصرخ، وينصرف على أقبح صورة [١٨٨] .

وقام نقفور بإحراق المصاحف، وتخريب المساجد، وأخذ من خزائن السلاح ما لم يسمع بمثله، مما كان جُمع من أيام بني أمية إلى هذه الغاية. وصعد نقفور منبر المدينة وخاطب من حوله: "أين أنا؟ "فقالوا: "على منبر طرسوس". فقال: "لا، ولكنني على منبر بيت المقدس، وهذه كانت تمنعكم من تلك" [١٨٩] . وأمر بنقل أبواب مدينة طرسوس إلى القسطنطينية، كما أمر بنبش قبر المأمون، فأخذ سلاحه، وأعاد القبر كما كان. وجعل المسجد الجامع اصطبلا لدوابه، ثم أحرق البلد.

كل ذلك يُشير إلى الروح الصليبية التي كانت تحرّك نقفور، وهذا وسيف الدولة حي يرزق بميافارقين، والملوك من المسلمين كل واحد مشغول بمحاربة جاره من المسلمين، وعطّلوا فرض الجهاد كما قال ياقوت [١٩٠] وابن كثير [١٩١] .