وأما أمره تعالى لمحمد عليه السلام ولأمته بالدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم، فلا يدلُّ على عدم حصول الهداية في الحال؛ لأن القاعدة اللغوية أن الأمر والنهي والدعاء والوعد والوعيد والشرط وجزاءه إنما يتعلق بالمستقبل من الزمان دون الماضي والحاضر، فلا يطلب إلا المستقبل؛ لأن ما عداه قد تعيَّن وقوعه، أو عدم وقوعه، فلا معنى لطلبه، والإنسان باعتبار المستقبل لا يدري ماذا قضي عليه، فيسأل الهداية في المستقبل؛ ليأمن من سوء الخاتمة، كما أن النصراني إذا قال: اللهم أمتني على ديني. لا يدل على أنه غير نصراني وقت الدعاء، ولا أنه غير مصمم على صحة دينه، وكذلك سائر الأدعية، وأجمع المسلمون والمفسرون على أن المغضوب عليهم اليهود، وأن الضالين النصارى، فتبديل ذلك مصادمة ومكابرة ومغالطة وتحريف وتبديل، فلا يُسمع من مدعيه.
١٠ - ومنها: أنهم قالوا: ليس من عدل الله تعالى أن يطالبنا باتباع رسول لم يرسله إلينا، ولا وقفنا على كتابه بلساننا.
والجواب: أنه عليه السلام لو لم يرسل إليهم فليت شعري من كتب إلى قيصر هرقل ملك الروم؟، وإلى المقوقس أمير القبط يدعوهم إلى الإسلام؟!
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
١١ - ومنها: أنهم قالوا: إن قال المسلمون: لم أطلقتم لفظ الابن والزوج الأقانيم، مع أن ذلك يوهم أنكم تعتقدون تعدد الآلهة، وأن الآلهة ثلاثة أشخاص مركبة، وأنكم تعتقدون ببنوة المباضعة؟ قلنا للمسلمين: هذا كإطلاق المتشابه عندكم من لفظ اليد، والعين، ونحوها، فإنه يوهم التجسيم، وأنتم لا تعتقدونه.
والجواب: أن آيات وأحاديث صفات الله ليست من المتشابه عند أهل السنة؛ بل هي معلومة المعنى، نثبتها لله كما أثبتها لنفسه دون تشبيه أو تعطيل، أو تأويل. وأما ما كان من المتشابهات التي بيَّنها العلماء والواردة في قوله تعالى: وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:٧]. فإنما يطلق المسلمون المتشابه بعد ثبوته نقلا متواترا نقطع به عن الله تعالى أنه أمر بتلاوته امتحانا لعباده ليضل من يشاء، ويهدي من يشاء، وليعظم ثواب المهتدين حيث حصلت الهداية بعد التعب في وجوه النظر، ويعظم عذاب الضالين حيث قطعوا لا في موضع القطع، ولم ينقلوا ذلك عن أمره كما اتفق ذلك في الإنجيل؛ بل ما اقتصر المسلمون على الجمع القليل، بل ما اعتمدوا على العدد الذي يستحيل عليهم الكذب، فلما تحققوا أن الله أمرهم بذلك نقلوه، وأما النصارى فأطلقوا بعض ذلك من قبل أنفسهم، كالأقانيم والجوهر، وبعضها نقلوه نقلا لا تقوم به حجة في أقل الأحكام، فضلا عن أحوال الربوبية، فهم عصاة لله تعالى حيث أطلقوا عليه ما لم يثبت عندهم بالنقل، بل لو طولبوا بالرواية لإنجيلهم لعجزوا عن الرواية، فضلا عن النقل القطعي، فلا تجد أحدا له رواية في الإنجيل يرويه واحد عن واحد إلى عيسى عليه السلام، وأقل الكتب عند المسلمين من الارتياب وغيرها يروونها عن قائلها، فتأمَّل الفرق بين الاثنين، والبون الذي بين الدينين؛ هؤلاء المسلمون ضبطوا كل شيء، والنصارى أهملوا كل شيء، ومع ذلك يعتقدون أنهم على شيء.
١٢ - ومنها: أنهم قالوا: الله له عدل وفضل، وهو سبحانه وتعالى يتصرف بهما، فأرسل موسى عليه السلام بشريعة العدل لما فيها من التشديد، فلما استقرت في نفوسهم وقد بقي الكمال الذي لا يصنعه إلا أكمل الكملاء، وهو الله تعالى، ولما كان جوادا تعيَّن أن يجود بأفضل الموجودات، وليس في الموجودات أجود من كلمته يعني نطقه، فجاد بها واتحدت بأفضل المحسوسات، وهو الإنسان، لتظهر قدرته، فحصل غاية الكمال، ولم يبق بعد الكمال إلا النقص؛ فتفضل بالنصرانية.