والجواب: أن النصارى لما لعبوا في كتابهم بالتحريف، والتخليط صار ذلك لهم سجية، وأصبح الضلال والإضلال لهم طوية، فسهل عليهم تحريف القرآن، وتغيير معانيه لأغراضهم الفاسدة، والقرآن الكريم بريء من ذلك، وكيف تخطر لهم هذه التحكمات بغير دليل ولا برهان؛ بل بمجرد الأوهام والوسواس؟، وأما قوله تعالى: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:١٥٩]. ففيه تفسيران:
أحدهما: أن كل كافر إذا عاين الملائكة عند قبض روحه ساعة الموت ظهر له منهم الإنكار عليه بسبب ما كان عليه من الكفر، فيقطع حينئذ بفساد ما كان عليه، ويؤمن بالحق على ما هو عليه فإن الدار الآخرة لا يبقى فيها تشكك ولا ضلال، بل يموت الناس كلهم مؤمنين موحدين على قدم الصدق ومنهاج الحق، وكذلك يوم القيامة بعد الموت، لكنه إيمان لا ينفع ولا يعتد به، وإنما يقبل الإيمان من العبد حيث يكون متمكنا من الكفر، فإذا عدل عنه وآمن بالحق كان إيمانه من كسبه وسعيه، فيؤجر عليه، أما إذا اضطر إليه، فليس فيه أجر، فما من أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن بنبوة عيسى عليه السلام وعبوديته لله تعالى قبل موته، لكن قهرا لا ينفعه في الخلوص من النيران وغضب الديان.
التفسير الثاني: أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان عند ظهور المهدي بعد أن يفتح المسلمون القسطنطينية من الفرنج، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، ولا يبقى على الأرض إلا المسلمون، ويستأصل اليهود بالقتل، ويصرِّح بأنه عبد الله ونبيه، فتضطر النصارى إلى تصديقه حينئذ لإخباره لهم بذلك، وعلى التفسيرين ليس فيه دلالة على أن النصارى الآن على خير.
وأما قوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [سبأ:١٤]. فهو من محاسن القرآن الكريم، لأنه من تلطف الخطاب وحسن الإرشاد، فإنك إذا قلت لغيرك: أنت كافر فآمن. ربما أدركته الأنفة فاشتد إعراضه عن الحق، فإذا قلت له: أحدنا كافر ينبغي أن يسعى في خلاص نفسه من عذاب الله تعالى، فهلم بنا نبحث عن الكافر منا فنخلصه. فإن ذلك أوفر لداعيته في الرجوع إلى الحق، والفحص عن الصواب، فإذا نظر فوجد نفسه هو الكافر فرَّ من الكفر من غير منافرة منك عنده، ويفرح بالسلامة، ويُسرُّ منك بالنصيحة، هكذا هذه الآية سهَّلت الخطاب على الكفار؛ ليكون ذلك أقرب لهدايتهم، ومنه قول صاحب فرعون المؤمن لموسى عليه السلام: وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا [غافر:٢٨ - ٢٩]. فخصَّهم أولا بالملك والظهور؛ لتنبسط نفوسهم مع علمه بأنه وبال عليهم، وسبب طغيانهم، ولم يجزم في ظاهر اللفظ بصدق موسى عليه السلام مع قطعه بصدقه، بل جعله معلقا على شرط؛ لئلا ينفِّرهم فيحتجبوا عن الصواب، فكل من صحَّ قصده في هداية الخلق سلك معهم ما هو أقرب لهدايتهم، وكذلك قوله تعالى لموسى وهارون في حق فرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:٤٤] وقوله لمحمد صلوات الله عليهم أجمعين: وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: ١٥٩]. وقوله: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:٤٦]. فهذا كله من محاسن الخطاب، لا من موجبات الشك والارتياب.