تفسير قوله تعالى: (رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً)
وقال تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:٩]، فهو رب المشرق والمغرب، كما قال تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:١٧].
وقوله سبحانه: (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) أي: لا تلجأ إلا إليه، ولا تستعن إلا به، ولا تطلب المدد والعون إلا منه.
والتوكل على الله عز وجل من أعمال القلوب وهو ثمرة اليقين، وفي الحديث الذي أورده الإمام النووي في كتابه القيم (رياض الصالحين) الباب السابع: باب اليقين والتوكل، حديث عكاشة بن محصن رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عرضت علي الأمم)، أي: كل الأمم السابقة عرضت على النبي عليه الصلاة والسلام (فرأيت النبي ومعه الرهيط -والرهيط يعني ثلاثة- ورأيت النبي ومعه الرجلان، ورأيت النبي ومعه الرجل، ورأيت النبي وليس معه أحد)، فهذا نبي بعثه الله إلى أمة فلم يستحب له أحد، (ثم رأى النبي صلى الله عليه وسلم سواداً فظن أنه أمته، فقيل له: هذه أمة موسى، ثم رفع له سواد أعظم من الأول فقيل له: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً)، وفي رواية أخرى: (ومع كل واحد من السبعين ألفاً سبعون ألفاً)، فسبعون ألفاً في سبعين ألفاً تصبح أربعة مليارات وتسعمائة مليون من أمة النبي عليه الصلاة والسلام، هؤلاء (يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) أنت مغبون إن لم تكن من الأربعة المليار، وليس لك مكان في الأربعة المليار يا عبد الله.
ثم قال: (مع كل واحد من السبعين سبعون ألفاً، فخاض الصحابة فيهم فقال بعضهم: هم السابقون، وقال بعضهم: هم الذين جاهدوا في بدر واختلفوا فيهم، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ووجدهم يختلفون في شأنهم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: هم الذين لا يسترقون) (لا يسترقون) أي: لا يطلبون الرقية من غيرهم، وإنما يتوكلون على الله عز وجل، ولا يلجئون إلى أحد وإنما يلجئون إلى الله، وليس هذا قدحاً في الأسباب، وإنما هو صدق اللجوء إلى الله، لا يجعل هنا واسطة حتى في الرقية؛ لأن الله يقول: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:٦٢].
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يتطيرون)، التطير هنا بمعنى التشاؤم، وبعض الناس يتشاءم بيوم الأربعاء، أو يتشاءم بشهر شوال، ويقول: إن تزوجت المرأة في شوال تنكبس، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بـ عائشة في شوال، وعقد عليها في شوال.
فعليك أن تتلقى العلم على يد عالم يضبط لك المسألة؛ لأنه ربما يقرأ قارئ: بنى بـ عائشة في شِوال، فكلمة (شوال) لابد أن تشكل، فينبغي أن تتلقى العلم على يد عالم يضبط لك الحروف ويصحح لك النطق.
فالنبي صلى الله عليه وسلم عقد عليها في شوال وبنى بها في شوال؛ ليدفع التشاؤم الذي كان عند العرب من هذا الشهر في الزواج والعقد، والبعض إذا دخل على متجره في الصباح رجل إحدى عينيه مصابة بعمى، يقول له: اصطبحنا بوجهك لن نستفتح، اليوم كله هكذا.
وبعض الناس عنده تفاؤل بالأرقام، يقول: أنا أتفاءل برقم تسعة.
وكان العرب في الصباح يطلقون الطير، فإذا طار إلى اليمين تفاءلوا، وخرجوا إلى العمل، وإذا طار إلى اليسار تشاءموا وجلسوا في البيوت، هذا هو التطير.
ولعل بعض كبار رجال الأعمال اليوم يعتمدون في حظهم على الأبراج، يقول لك: أنا برجي الثور، فيقرأ ثم يصدق، هذا من باب التطير ومن باب التشاؤم الذي لا يجوز أبداً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يتطيرون)، وأحياناً تجد شاباً من شبابنا يلبس حظاظة وفي أذنه حلق، هل هؤلاء هم الذي سيحررون الأقصى؟ نسأل الله العافية.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يكتوون -أي: بالنار- وعلى ربهم يتوكلون، فقال عكاشة بن محصن رضي الله عنه: ادع الله أن أكون منهم يا رسول الله! قال: أنت منهم يا عكاشة، وقام آخر وقال: وأنا يا رسول الله، قال: سبقك بها عكاشة)، انظروا إلى الأدب النبوي، لم يقل له: لست منهم، إنما قال بأدب جم: (سبقك بها عكاشة).
قال العلماء: إما أن يكون الرجل من أهل النفاق، وقد أطلعه الله على ما يبطنه، وإما أنه أراد أن يغلق الباب؛ لأنه لو قال للثاني: أنت منهم لقام الثالث، ثم قام الرابع، فأغلق النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب.
لذلك في حديث البخاري: (كان عند النبي صلى الله عليه وسلم كثير من الصحابة، فأكثروا السؤال عليه، فقال لهم: سلوا عما شئتم، فقام رجل وقال: يا رسول الله! من أبي؟ فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أبوك حذافة، فقام آخر وقال: وأنا يا رسول الله! من أبي؟)، فاشتد عمر غيظاً وجلس على ركبتيه وكبر وسبح حتى