[تفسير قوله تعالى:(ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله)]
ويقابل هذه الطائفة قول الله جل وعلا:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}[البقرة:٢٠٧] ويشري هنا: بمعنى: يبيع، والأظهر: أن الفعل يشري في القرآن لم يرد إلا بمعنى يبيع، قال الله جل وعلا في خبر نبيه يوسف:{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ}[يوسف:٢٠] أي: وباعوه بثمن بخس، فهنا قول الله جل وعلا:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي}[البقرة:٢٠٧] أي: من يبيع نفسه، وهذه الآية اختلف فيمن هو المراد فيها، وأكثر أهل العلم على أنها تنصرف أول ما تنصرف إلى صهيب بن سنان المعروف بـ صهيب الرومي، وكنيته أبو يحيى رضي الله عنه وأرضاه، وقد كان في أول أمره أسيراً، ثم نشأ صعلوكاً في مكة، وصعلوك بمعنى: فقير قليل الحال رث المال، ثم ما لبث أن اغتنى، فلما جاء الإسلام كان صهيب من السابقين الأولين، فلما أراد الهجرة منعته قريش، ومما احتجت به في منعه أن يخرج أنهم قالوا له: إنك أتيتنا صعلوكاً لا مال لك، فوالله لن تخرج وقد جمعت المال، فتنازل عن أمواله مع الاختلاف كيف تنازل عن أمواله: هل دلهم على أماكنها، أو أعطاهم إياها، وهذا كله ليس له علاقة في تحقيق المناط في القضية، لكن المقصود: أنه أراد أن يبيع ذلك كله من أجل أن يفوز برضوان الله، وهذا من أعلا المقامات، وأرفع الدرجات، قال الله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة:٢٠٧].
والرأفة: أرق الرحمة وألطفها، وصهيب رضي الله عنه كان في زمن ما عبداً لقريش، فلما باع نفسه لله رأف به الرءوف الرحيم رب العباد جل جلاله، وقد ذكر الله هنا اسمه رءوف دون أسمائه الحسنى الأخرى، وكل أسماء الله حسنى، ومن مظاهر رأفته جل وعلا بعباده أمور نذكر منها اثنتين، ثم نذكر الثالثة المتعلقة بـ صهيب، فغير المتعلقة بـ صهيب من مظاهر رأفة الله التي هي أرق الرحمة وألطفها: أنه يضاعف الحسنات ولا يضاعف السيئات.
ومن مظاهر رأفة الله: أنه لو قدر أن أحداً أذنب وكفر مائة عام أو أقل أو أكثر، ثم تاب وصدق مع ربه أسقط الله عنه كل ما مضى، فهذان اثنان غير مرتبطين ارتباطاً مباشراً بموضوع صهيب، لكن موضوع صهيب يتعلق بالمظهر الثالث، وقد قلنا: إن صهيباً أخبر الله عنه، وهذا قلنا إنه ينطبق على صهيب وعلى غير صهيب، هذا على القول إنها نازلة في صهيب؛ أن أخبر الله عن هذه الطائفة التي يمثلها صهيب هنا بقوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ}[البقرة:٢٠٧] أي: يبيع نفسه (ابتغاء مرضات الله) فعندما يبيع المرء نفسه فإن المشتري هو الله، والثمن هو الجنة، فهذه النفس وهذا المال الذي ضحى به صاحبه في أصله هو ملك لله، وهذه الجنة التي يدخلها الله من باع نفسه من أجله هي ملك لله، فمن مظاهر رأفة الله: أنه يشتري ملكه بملكه؛ رأفة ورحمة بعباده، والله جل وعلا يقول:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}[التوبة:١١١]، فالمشتري الله، والمشترى: النفس والمال، والثمن: الجنة، وينطبق هذا على حال صهيب هنا، لكننا نلحظ ونعلم يقيناً أن النفس والمال والجنة كلها خلق لله، وملك لله، فمن مظاهر رأفته جل جلاله وعظم خيره: أنه يشتري ملكه بملكه؛ رحمة بعباده، ورأفة بهم، وهذا من أعظم مظاهر رأفة الله، ولهذا فهذه الآية التي صدرت بقول الله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}[البقرة:٢٠٧] ذيلت بقول الله: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة:٢٠٧].