للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بالأموال في أول الإسلام ليس بثابت ولا معروف ودعوى النسخ غير مقبولة مع الجهل بالتاريخ (١)، وقد نقل الطحاوي والغزالي الإجماع على نسخ العقوبة بالمال (٢).

وحكى بعضُ المتأخرين عن النووي مثل ذلك، وكلامه الذي ذكرناه سابقًا يدل على خلافه، وزعم الشافعي أن الناسخ حديث ناقة البراء (٣) لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ


(١) قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (٢٨/ ١١١): ومن قال: إن العقوبات المالية منسوخة وأطلق ذلك من أصحاب مالك وأحمد فقد غلط على مذهبما، ومن قاله مطلقًا من أي مذهب كان: فقد قال قولاً بلا دليل. ولم يجيء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء قط يقتضي أنّه حرم جميع العقوبات المالية. بل أخذ الخلفاء الراشيدن وأكابر أصحابه بذلك بعد موته دليل على أن ذلك محكم غير منسوخ.
وعامة هذه الصور منصوصة عن أحمد ومالك وأصحابه، وبعضها قول عند الشافعي باعتبار ما بلغه من الحديث.
ومذهب مالك وأحمد وغيرهما: أن العقوبات المالية كالبدنية: تنقسم إلى ما يوافق الشرع، وإلى ما يخالفه، وليست العقوبة المالية منسوخة عندهما، والمدّعون للنسخ ليس معهم حجة بالنسخ، لا مع كتابٍ، ولا سنة.
(٢) انظر التعليقة السابقة.
(٣) يشير إلى الحديث الصحيح الذي أخرجه مالك في "الموطأ" (٢/ ٧٤٧ رقم ٣٧) عن ابن شهاب عن حرام بن سعد بن مُحيصة، أنّ ناقةً للبراء بن عازب دخلت حائط رجلٍ فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنّ على أهل الحوائط حِفظها بالنّهار. وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامنُ على أهلها".
قلت: وهذا سند مرسل صحيح، وقد أخرجه الدارقطني (٣/ ١٥٦ رقم ٢٢٢) والبيهقي (٨/ ٣٤١) وأحمد (٥/ ٤٣٥ - ٤٣٦) من طريق مالك به.
وتابعه الليثب بن سعد عن ابن شهاب به مرسلاً. أخرجه ابن ماجه رقم (٢٣٣٢) وتابعهما سفيان ابن عيينة عن الزهري، عن سعيد بن المسيّب، وحرام بن سعد بن محيصة أن ناقة للبراء ... أخرجه أحمد (٥/ ٤٣٦) والبيهقي (٨/ ٣٤٢).
وتابعهم الأوزاعي، لكن اختلفوا عليه، في سنده، فقال أبو المغير ثنا الأوزاعي عن الزهري عن حرام بن محيصة الأنصاري به مرسلا.
أخرجه البيهقي (٨/ ٣٤١). وقال الفريابي عن الأوزاعي به إلا أنه قال: "عن البراء بن عازب" فوصله. أخرجه أبو داود رقم (٣٥٧٠) وعنه البيهقي (٨/ ٣٤١) والحاكم (٢/ ٤٨).
وكذا قال محمد بن مصعب: ثنا الأوزاعي به موصلاً. أخرجه أحمد (٤/ ٢٩٥) والبيهقي (٨/ ٣٤١) والدارقطني (٣/ ١٥٥ رقم ٢١٩).
وكذا قال أيوب بن سويد: ثنا الأوزاعي به، أخرجه الدارقطني (٣/ ١٥٥ رقم ٢١٧) والبيهقي (٨/ ٣١٤).
فقد اتفق هؤلاء الثلاثة: الفرياني، ومحمد بن مصعب، وأيوب بن سويد، على وصله على الأوزاعي، فهو أولى من رواية أبي المغيرة عنه مرسلاً لأنهم جماعة. وهو فرد.
وتابعهم معمر، واختلفوا عليه أيضًا، فقال عبد الرزاق؛ ثنا معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة للبراء الحديث.
فزاد في السند "عن أبيه" أخرجه أبو داود رقم (٣٥٦٩) وابن حبان (رقم ١١٦٨ ـ موارد) والدارقطني (٣/ ١٥٤ رقم ٢١٦) أحمد (٥/ ٤٣٦) والبيهقي (٨/ ٣٤٢).
وقال: "وخالفه وهيب، وأبو مسعود الزجاج عن معمر، فلم يقولا: عنه عن أبيه".
قال ابن التركماني في "الجوهر النقي" (٨/ ٣٤٢ مع السنن): "وذكر ابن عبد البر بسنده عن أبي داود، وقال: لم يتابع أحد عبد الرزاق على قوله في هذا الحديث: "عن أبيه" وقال أبو عمر: أنكروا عليه قوله فيه: "عن أبيه" وقال ابن حزم: هو مرسل .. ".
قال المحدث الألباني في "الصحيحة" (١/ ٤٢٥): "لكن قد وصله الأوزاعي بذكرالبراء فيه، في أرجح الروايتين عنه، وقد تابعه عبد الله بن عيسى عن الزهري عن حرام بن محيصة عن البراء به.
أخرجه ابن ماجه رقم (٢٣٣٢) والبيهقي (٨/ ٣٤١ - ٣٤٢).
وعبد الله بن عيسى هو ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو ثقة محتج به في الصحيحين، فهي متابعة قوية للأوزاعي على وصله، فصح بذلك الحديث ولا يضره إرسال من أرسله، لأن زيادة الثقة مقبولة، فكيف إذا كانا ثقتين؟ وقد قال الحاكم (٢/ ٤٨) عقب رواية الأوزاعي "صحيح الإسناد، على خلاف فيه بين معمر والأوزاعي" ووافقه الذهبي، كذا قالا، وخلاف معمر مما لا يلتفت إليه لمخالفته لروايات جميع الثقات في قوله: "عن أبيه" على أنَّه لم يتفقوا عليه في ذلك كما سبق، فلو أنهما أشارا إلى خلاف مالك، والليث، وابن عيينة في وصله لكان أقرب إلى الصواب، ولو أن هذا لا يُقلُّ به الحديث لثبوته موصولاً من طريق الثقتين كما تقدم".