نقطة البداية
خلصنا مما سبق بيانه أنه لكي يُحقق المرء في نفسه صفات العبودية لله عز وجل، ويرتدي رداءها لابد له من معرفة عميقة به سبحانه ..
هذه المعرفة تحتاج إلى معلومات .. هذه المعلومات بثها الله عز وجل في الكون المحيط بنا، من مخلوقات تراها أعيننا، ومن أحداث تمر بنا في حياتنا.
كما أرسل سبحانه وتعالى لعباده دليلاً يدل عليه، ويقود من يستخدمه إلى معرفته، وإلى الانتفاع بآياته المبثوثة في كونه .. هذا الدليل هو الكتاب الخالد .. القرآن الكريم: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:١٥، ١٦].
[التمسك بالدليل هو البداية]
إن القرآن الذي بين أيدينا وتراه أعيننا قادر - بإذن الله - على أن يعرفنا بربنا معرفة يقينية، وأن يُنشئ الإيمان بقاعدته العريضة في قلوبنا، وأن يجعلنا نربط حياتنا به سبحانه، وأن يعلمنا كيف نعتبر بآياته المنظورة، وكيف نستدل من خلالها على الله عز وجل فتزداد بذلك المعرفة ومن ثَمَّ المعاملة والقرب.
كل ذلك يفعله القرآن وأكثر وأكثر: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:٩].
إذن فنقطة البداية في رحلة المعرفة والسير إلى الله هي اتخاذ الدليل الذي يدلنا على الله ويعرفنا به ... وهذه هي وظيفة القرآن المتفردة.
ويؤكد على هذا المعنى ابن القيم - رحمه الله - فيقول: لا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر؛ فإنه جامع لجميع منازل السائرين، وأحوال العاملين، ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق، والخوف والرجاء، والإنابة والتوكل، والرضا، والتفويض، والشكر والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله (١).
ولكي يقوم القرآن بهذه الوظيفة لابد وأن نتعامل معه على حقيقته ... وأنه أعظم وسيلة تعرف بالله وتُنشئ الإيمان في القلب ... تأمل معي تعليق الإمام البخاري على قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:٧٧ - ٧٩].
يقول: "لا يجد طعمه إلا من آمن به."
(١) مفتاح دار السعادة لابن القيم (١:٥٥٣) - دار ابن عفان - الخُبر - السعودية.