للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويقول في خطبة أخرى إذ استنفر الناس إلى أهل الشام:" أفٍ لكم، لقد سئمت عتابكم، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً، وبالذلّ من العزّ خلفاً؟ إذا دعوتكم إلى جهاد أعدائكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غَمرة، ومن الذُّهول في سكرة، يُرتج عليكم حَواري فتعمهون، وكأن قلوبكم مألوسةٌ فأنتم لا تعقلون، ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي، وما أنتم بركن يُمال بكم ولا زوافِر عز يفتقر إليكم، ما أنتم إلا كإبل ضلّ رعاتها. فكلما جُمعت من جانبٍ انتشرت من آخر، وبئس لعمر الله سعرُ نار الحرب أنتم، تُكادون ولا تكيدون، وتُنقص أطرافكم ولا تمتعضون، لا يُنام عنكم وأنتم في غفلة ساهون".

وأيضاً يقول في خطبة أخرى:"مُنيت بمن لا يُطيع إذا أمرت، ولا يُجيب إذا دعوت. لا أباً لكم، ما تنظرون بنصركم ربّكم؟ لا دين يجمعكم ولا حمية تُحمشكم. أقول فيكم مُستصرخاً، وأناديكم متغوّثاً، فلا تسمعون لي قولاً، ولا تطيعون لي أمراً، حتى تكشف الأمور عن عواقب المساءة، فما يُدرك بكم ثأر، ولا يُبلغ منكم مرام. دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الحمل الأسرّ، وتثاقلتم تثاقل النّضو الأدبر. ثم خرج إليّ منكم جُنيد متذائب ضعيف كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ [الأنفال:٦].

ويقول: "كم أُداريكم كما تُدارى البِكار العَمِدة والثيابِ المتداعية إن حيصت من جانبٍ تهتكت من آخرَ، وكلما أطلّ عليكم مِنسر من مناسر أهل الشام أغلق كل رجل منكم بابه وانجحر انجحار الضبَّة في جحرها والضبع في وجارها".

وأيضاً في خطبة أخرى:"من رمى بكم فقد رمى أفوق ناصل، إنكم والله لكثير في الباحات، قليل تحت الرايات".

وهذه الخطب كلها ذكرها الرضي في (نهج البلاغة) وغيره من الإمامية أيضاً رووها في كتبهم. وقال علي بن موسى بن طاووس (١) سبط محمد بن الحسن الطوسي: إن أمير المؤمنين كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتال البغاة، فما أجابه إلا رجلان، فتنفس الصعداء وقال: أين يقعان. ثم قال ابن طاووس: إن هؤلاء مع اعتقادهم فرض طاعته وأنه صاحب الحق، وأن الذين ينازعونه على الباطل. وكان عليه السلام يداريهم ولكن لا تجديه المداراة نفعاً. وقد سمع قوماً من هؤلاء ينالون منه في مسجد الكوفة ويستخفون به، فأخذ بعضادتي الباب وأنشد متمثلاً:

هنيئاً مريئاً غير داء مُخامر ... لعزّة من أعراضنا ما استحلّت

فيئس منهم كلهم، ودعا على هؤلاء الذين يدّعون شيعته بقوله: "قاتلكم الله، وقبحاً لكم وترحاً". ونحوها.

وكذا حلف على أن لا يُصدّق قولهم أبداً. ووصفهم في مواضع كثيرة بالعصيان لأوامره وعدم استماعهم وقبولهم لكلامه، وأظهر البراءة من رؤيتهم.

وهؤلاء لم يكن لهم وظيفة سوى الحطّ على حضرة الأمير رضي الله عنه وذمهم له، وحاشاه.

وقد علم أيضاً أن شيعة ذلك الوقت كانوا كلهم مشتركين في هذه الأحوال، وداخلين في هذه المساوئ إلا رجلين منهم، فإذا كان حال الصدر الأول والقرن الأفضل الذين هم قدوة لمن خلفهم من بعدهم وأسوة لأتباعهم ما سمعت ذكره، فكيف بأتباعهم؟ فويلٌ لهم مما يكسبون.


(١) هو رضى الدين أبي القاسم علي بن موسى بن طاووس الهالك سنة ٦٦٤هـ‍، انظر ترجمته: ((نقد الرجال)) للتفرشي (٢٤٤)، ((أمل الآمل)) للحر العاملي (٢/ ٢٠٥)، ((لؤلؤة البحرين)) للبحراني (٢٣٩)، ((منتهى المقال)) للقمي (٣٥٧)، ((خاتمة المستدرك)) للنوري (الطبعة القديمة) (٣/ ٤٦٧)، و ((الذريعة)) للطهراني (١٢/ ١٨٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>