ثم أمر فتيانَه أن يضعوا بضاعتهم وهي ما جاؤوا به يتعوَّضون به عن الميرةِ في أمتعتهم من حيثُ لا يشعرون بها ﴿لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ قيل: أراد أن يردُّوها إذا وجدوها في بلادهم. وقيل: خشيَ ألا يكونَ عندهم ما يرجعون به مرة ثانية. وقيل: تذمَّم (١) أن يأخذ منهم عوضًا عن الميرة. وقد اختلف المفسرون في بضاعتهم على أقوال سيأتي ذكرُها. وعند أهل الكتاب أنها كانت صُورًا من وَرق، وهو أشبه، واللّه أعلم.
يذكرُ تعالى ما كان من أمرهم بعد رجوعهم إلى أبيهم. وقولهم له: ﴿مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ﴾ أي: بعد عامنا هذا إن لم تُرسلْ معنا أخانا، فإن أرسلتَه معنا لم يُمنعْ منَّا ﴿وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مَا نَبْغِي﴾ أي: أي شيء نُريد وقد رُدَّتْ إلينا بضاعتنا ﴿وَنَمِيرُ أَهْلَنَا﴾ أي: نمتارُ لهم ونأتيهم بما يُصلحُهم في سَنَتهم ومَحْلهم ﴿وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ﴾ بسببه ﴿كَيْلَ بَعِيرٍ﴾ قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾ أي: في مقابلة ذهاب ولده الآخر، وكان يعقوبُ ﵇ أضنَّ شيءً بولده "بنيامين" لأنه كان يشمُّ فيه رائحةَ أخيه، ويتسلَّى به عنه، ويتعوَّض بسببه منه، فلهذا قال: ﴿لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾ أي: إلا أن تغلبوا كلُّكم عن الإتيان به ﴿فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾ أ كَّد المواثيقَ وقرَّرَ العهودَ، واحتاطَ لنفسه في ولده، ولن يُغني حَذرٌ من قَدَر. ولولا حاجته وحاجة قومه إلى الميرة لما بعثَ الولد العزيز، ولكنَّ الأقدار لها أحكامٌ، والربُّ تعالى يُقدِّرُ ما يشاءُ ويختارُ ما يُريد، ويحكم ما يشاءُ، وهو الحكيم العليم.
ثم أمرَهم ألَّا يدخلوا المدينةَ من بابٍ واحدٍ، ولكنْ ليدخلوا من أبوابٍ مُتفرِّقةٍ. قيل: أراد ألَّا يُصيبَهم أحدٌ بالعين، وذلك لأنهم كانوا أشكالًا حسنةً، وصورًا بديعة، قاله ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وقتادة والسُّدِّي والضَّحَّاك. وقيل: أراد أن يتفرَّقوا لعلَّهم يجدون خبرًا ليوسفَ أو يُحدَّثون عنه بأثر، قاله إبراهيم النخعي، والأول أظهر. ولهذا قال: ﴿وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾