ثم ان الملك المظفر محمود - صاحب حماه - حضر في عسكر كثيف عند الملك الكامل ليعاونه به على دفع العدو، فاجتمع هناك من العساكر نحو أربعين ألف مقاتل، فجرى بينهم من القتال ما يطول شرحه عن هذا المختصر. فلما طال الأمر على الأفرنج أيقنوا بالهلاك، وأرسلوا يطلبون من الملك الكامل الأمان على أنهم يتركون دمياط ويرحلون عنها إلى بلادهم، فاتفق الحال على أن كلا من الفريقين يعطي رهائن من أقاربه، وعلى أن كلا من المسلمين يطلق من عنده من الأسارى، وعلى أن الأفرنج يطلقون من عندهم من الأسرى من أيام الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب
فحلف الملك الكامل والافرنج على ذلك، ووقع الصلح على ذلك. فأرسل ملك الافرنج عشرين ملكا من عنده رهنا إلى الملك الكامل، وأرسل الملك ابنه الأمير نجم الدين مع جماعة من الأمراء إلى ملك الافرنج … فعند ذلك سلم الافرنج مدينة دمياط إلى المسلمين، وأطلقوا من كان عندهم من الأسرى من أيام الملك الناصر صلاح الدين يوسف. وكذلك أطلق الملك الكامل من كان عنده من الافرنج الأسرى.
قيل لما سلم الفرنج مدينة دمياط إلى المسلمين، جاء عقيب ذلك إلى الافرنج نجدة من البحر نحو مائتي مركب، وكان من جميل صنع الله تأخرها إلى حين تسلم المسلمون دمياط، لأنها لو جاءت قبل ذلك لتقووا بها من المسلمين، وأبوا عن الصلح، فلما تسلم الملك الكامل مدينة دمياط كان يوم دخوله إليها يوما مشهودا لم يسمع بمثله، وعمت البشائر سائر الآفاق، وكانت مدة استيلاء الفرنج على ثغر دمياط سنة وعشرة أشهر وأربعة وعشرين يوما، والملك الكامل معهم في جهاد ليلا ونهارا، لا يكل من الحروب في هذه المدة. وكانت هذه النصرة في سنة تسع عشرة وستمائة.
قال الشيخ شمس الدين الذهبي إن في مدة المحاصرة حضر إلى الملك الكامل أخواه - وهما الملك المعظم عيسى صاحب دمشق والملك الأشرف موسى شاه أرمن صاحب حلب وماردين - فلما حصلت هذه النصرة أحضر الملك أخويه واجتمعوا في القصر الذي أنشأه الملك الكامل في المنصورة، وكان مبتدأ عمارة المنصورة في سنة عشرين وستمائة، فلما اجتمعوا في القصر أحضروا سفرة الشراب بعد أن مد لهم سماط عظيم هناك. فلما جلسوا إلى المنادمة بعد ما قاسوا من الافرنج أهوالا عظيمة كما قيل في المعنى:
فيوم علينا ويوم لنا … ويوم نساء ويوم نسر
أحضر الملك الأشرف موسى جارية تغني على عود، فحركت العود وأنشدت تقول:
ولما طغى فرعون عكا بسحره … وجاء ليسعى بالفساد إلى الأرض