فجاءت على طرق أذنه جواز، فسقط عن فرسه إلى الأرض، وقد أغمي عليه وغاب عن الوجود، فحمله الغلمان على أعناقهم، وبقي لباسه بتكته بائنا للناس، ورأسه مكشوف وعليه زنط أقرع، فنزلوا به من الصليبة وهو على هذه الهيئة. فلما وصلوا به إلى المدرسة الجاولية أركبوه على حمار وهو مغمى عليه لا يدري ما جرى له. فلما وصلوا به إلى درب الشمس اختفى في مكان هناك. وكانت هذه الواقعة من أعجب الوقائع كما قيل:
وبين اختلاف الليل والصبح معرك … يكر علينا جيشه بالعجائب
فلما انكسر قانصوه، وخرج من باب السلسلة على أنحس حال، نزل المماليك الجلبان من القلعة إلى باب السلسلة، ونهبوا كل ما فيه من سلاح وقماش وغير ذلك، ونهبوا طشتخاناة الأمراء والخليفة، وخطفوا عمائم القضاة ونوابهم، وما سلم الخليفة والقضاة من القتل إلا السلامة. وقتل في هذه الحركة جماعة من الجند، وقتل شخص من الأمراء العشروات، يقال له: كمشبغا، وكانت النصرة للملك الناصر على قانصوه خمسمائة على غير القياس، بعد أن ملك باب السلسلة، وبايعه الخليفة، وتلقب بالأشرف، واجتمع عنده سائر الأمراء المقدمين - من الظاهرية الجقمقية، والقايتباهية وسائر العسكر من كبير وصغير - وقبلوا له الأرض قاطبة. فأورث الخذلان وانتصر عليه الملك الناصر … وكان قد استخف به لصغر سنة وقلة عصبته، فكان كما قيل في المعنى:
ولا تحقرن صغيرا رماك … وإن كان في ساعديه قصر
فإن السيوف تحز الرقاب … وتعجز عما تنال الإبر
وقال آخر:
لا تحقرن كيد الصغير فربما … تموت الأفاعي من سموم العقارب
وقال آخر:
لا تحقرن صغيرا في مخاصمة … إن الذبابة تدمي مقلة الأسد