رقابهم بين يدين، ورسم للوالي بأن كل من كان عند الغزالي من المماليك وحضر إلى مصر، يوسطه من غير إذن، ولو كان من الأمراء. واشتد غضب ملك الأمراء في ذلك اليوم بحيث أنه حم جسده في ذلك اليوم ولزم الفراش، وانقطع عن المحاكمات ثلاثة أيام، وأشيع أنه قد طلع له تساليك في مشعره، واشتد الألم عليه، وانقطع عن الخروج، وصار يتصدق على الزواية والمزارات بمال له صورة، وصار يذبح الذبائح من الأبقار على أبواب الجوامع الكبار، ويتصدق بلحومها على المجاورين بالجوامع والزوايا.
وفي يوم الثلاثاء سابع عشره، نودي بالقاهرة عن لسان ملك الأمراء:"معاشر كافة الناس، إن كل من كان عنده مملوك من المماليك الجراكسة، ممن كان عند الغزالي نائب الشام، وأخفاه ولم يقر به، يشنق على باب داره من غير معاودة". وصارت هذه المنادة تتكرر في كل يوم ثلاث مرات، نحو ثلاثة أيام على لسان أربعة مشاعلية، اثنان بالتركي واثنان بالعربي.
وقد اضطربت الأحوال في هذه الأيام إلى الغاية بسبب جان بردي الغزالي نائب الشام.
فمن الناس من يقول: إنه باق في قيد الحياة، وأن الرأس التي قطعت غير رأسه، ومن الناس من يقول: إنه قتل في الواقعة التي كانت على القابون، وحزت رأسه وأرسلت إلى إسطنبول، والأصح أنه قتل على القابون، وهي ضيعة من الشام. وهذه الواقعة تقرب من واقعة قانصوه خمسمائة لما شك الناس في قتله.
وفي يوم الخميس تاسع عشر ربيع الآخر، كانت وفاة أمير المؤمنين المستمسك بالله يعقوب، ابن أمير المؤمنين عبد العزيز المتوكل على الله، وكان مولده سنة إحدى وخمسين وثمانمائة، وأمه تسمى آمنة، وهي ابنة أمير المؤمنين أبي الربيع سليمان بن محمد المتوكل على الله فهو هاشمي الأبوين. وكان رئيسا حشما دينا خيرا صالحا لين الجانب متواضعا، ولي الخلافة في دولة الملك الناصر محمد بن قايتباي الأشرف، وأقام فيها إحدى عشرة سنة ونصفا، وبايع أربعة من السلاطين ثم صرف عن الخلافة في دولة الأشرف الغوري، وعهد إلى ولده محمد المتوكل على الله، وقاسى شدائد ومحنا، وقد تقدم ذكر ذلك. وحصل له ضعف في بصره، وكان لا يقرأ ولا يكتب، وكان رجلا مباركا لم تعهد له صبوة قط، ومات وله من العمر نحو ثمانين سنة أو دون ذلك، وكان ولده غائبا بإسطنبول من حين نفاه السلطان سليم شاه بن عثمان، ولما مات رثاه الأديب البارع ناصر الدين محمد بن قانصوه بن صادق بهذه المرثية فقال:
رشق الموت في مرامي القلوب … من قسى الجوى سهام الكروب
يا لها من سهام كرب عظيم … في مرامي الحشا برمي مصيب