للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حسن اسمه من بعده، إلا من حظي بكاتب خطب عنه، وفخّم أمر دولته، وجعل ذكرها خالدا يتناقلة الناس، رغبة في فصل خطابه، واستحسانا لبداعة كلامه، فيكون ذكرها في خفارة ما دوّنه قلمه، ورقمته أساطيره، وليس الكاتب بكاتب حتى يضطر عدوّ الدولة أن يروي أخبار مناقبها في حفله، ويصبح ولسانه حامدا لمساعيها وبقلبه ما به من غله، ولقد أحسن أبو تمام في هذا المعنى حيث قال:

سأجهد حتّى أبلغ الشّعر شأوه ... وإن كان طوعا لي ولست بجاهد

فإن أنا لم يحمدك عنّي صاغرا ... عدوّك فاعلم أنّني غير حامد

وهذا الذي ذكرته حق وصدق، لا ينكره إلا جاهل به، وأنا أسأل الله الزيادة من فضله، وإن لم أكن أهلا له فإنه هو من أهله.

ووقفت على كلام لأبي إسحق الصابي في الفرق بين الكتابة والشعر، وهو جواب لسائل سأله؛ فقال: إن طريق الإحسان في منثور الكلام يخالف طريق الإحسان في منظومه، لأن الترسّل هو ما وضح معناه، وأعطاك سماعه في أول وهلة ما تضمنته ألفاظه، وأفخر الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه.

ثم قال بعد ذلك: ولسائل أن يسأل فيقول: من أية جهة صار الأحسن في معنى الشعر الغموض، وفي معاني الترسّل الوضوح؛ فالجواب) أن الشعر بني على حدود مقررة، وأوزان مقدرة، وفصلت أبياته؛ فكان كل بيت منها قائما بذاته، وغير محتاج إلى غيره، إلا ما جاء على وجه التضمين، وهو عيب، فلما كان النّفس لا يمتد في البيت الواحد بأكثر من مقدار عروضه وضربه، وكلاهما قليل؛ احتيج إلى أن يكون الفصل في المعنى، فاعتمد أن يلطف ويدق، والترسّل مبنيّ على مخالفة هذه الطريق؛ إذ كان كلاما واحدا لا يتجزأ ولا يتفصل إلا فصولا طوالا، وهو موضوع وضع ما يهذهذ أو يمر به على أسماع شتى من خاصة ورعية، وذوي أفهام ذكية وأفهام غبية؛ فإذا كان متسلسلا ساغ فيها وقرب، فجميع ما يستحب في الأول يكره في الثاني، حتى إن التضمين عيب في الشعر، وهو فضيلة في الترسل.

ثم قال بعد ذلك: والفرق بين المترسلين والشعراء أن الشعراء إنما أغراضهم

<<  <  ج: ص:  >  >>