للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السرج بالنهار، قال: أيهم أفضل؟ قال: هم كحلقة مضروبة لا يعرف طرفاها؛ فقال الحجاج لجلسائه: هذا والله هو الكلام الفصل الذي ليس بمصنوع.

وقد ورد في الأخبار النبوية من هذا الضرب شيء كثير، وسأورد منه أمثلة يسيرة.

فمن ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الحلال بيّن، والحرام بيّن وبينهما أمور متشابهات» وهذا الحديث من أجمع الأحاديث للمعاني الكثيرة، وذاك أنه يشتمل على جلّ الأحكام الشرعية؛ فإن الحلال والحرام إما أن يكون الحكم فيهما بينا لا خلاف فيه بين العلماء، وإما أن يكون خافيا يتجاذبه وجوه التأويلات؛ فكل منهم يذهب فيه مذهبا.

وكذلك جاء قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الأعمال بالنّيّات وإنّما لكلّ امريء مانوى» فإن هذا الحديث أيضا من جوامع الأحاديث للأحكام الشرعية.

ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المضعف أمير الرّكب» وقد ورد آخر هذا الحديث بلفظ آخر، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «سيروا بسير أضعفكم» إلا أن الأول أحسن؛ لأنه أبلغ معنى فإن الأمير واجب الحكم فهو يتّبع، وإذا كان المضعف أمير الركب كانوا مؤتمرين له في سيرهم ونزولهم، وهذا المعنى لا يوجد في قوله: «سيروا بسير أضعفكم» .

وأحسن من هذا كله ما ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم في حديث مطوّل يتضمن سؤال جبريل عليه السلام فقال من جملته: «ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» فقوله: «تعبد الله كأنك تراه» من جوامع الكلم؛ لأنه ينوب مناب كلام كثير، كأنه قال: تعبد الله مخلصا في نيتك، واقفا عند أدب الطاعة من الخضوع والخشوع، آخذا أهبة الحذر، وأشباه ذلك؛ لأن العبد إذا خدم مولاه ناظرا إليه استقصى في آداب الخدمة بكل ما يجد إليه السبيل وما ينتهي إليه الطّوق.

ومما أطربني من ذلك حديث الحديبية، وهو أنه جاء بديل بن ورقاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له: إني تركت كعب بن لؤي بن عامر بن لؤي معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت؛ فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ قريشا قد نهكتهم

<<  <  ج: ص:  >  >>