الِانْتِقَالِ لَا يَثْبُتُ عَلَى حَالٍ، فَنُورٌ عَقِبَ ظُلْمَةٍ وبالعكس، وازدياد نور وانتقاص. وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ مَفْعُولٌ أَوَّلٌ لِجَعَلَ بِمَعْنَى صير، وآيَتَيْنِ ثَانِي الْمَفْعُولَيْنِ وَيَكُونَانِ فِي أَنْفُسِهِمَا آيَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا عَلَامَتَانِ لِلنَّظَرِ وَالْعِبْرَةِ، وَتَكُونُ الْإِضَافَةُ في آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ لِلتَّبْيِينِ كَإِضَافَةِ الْعَدَدِ إِلَى الْمَعْدُودِ، أَيْ فَمَحَوْنا الْآيَةَ الَّتِي هِيَ اللَّيْلُ، وَجَعَلْنَا الْآيَةَ الَّتِي هِيَ النار مُبْصِرَةً. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ فَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ وَجَعَلْنَا نَيِّرَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ آيتين، وقدّره بعضهم و: جعلنا ذَوَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَيْ صَاحِبَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يُرَادُ بِهِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَيَظْهَرُ أَنَّ آيَتَيْنِ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، واللَّيْلَ وَالنَّهارَ ظَرْفَانِ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، أَيْ وَجَعَلْنَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ آيَتَيْنِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: لَيْسَ جَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى صَيَّرَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي حَالَةً تَقَدَّمَتْ نُقِلَ الشَّيْءُ عَنْهَا إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى، وَلَا بِمَعْنَى سَمَّى وَحَكَمَ، وَالْآيَةُ فِيهَا إِقْبَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِدْبَارُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يُعْلَمُ، وَنُقْصَانُ أَحَدِهِمَا بِزِيَادَةِ الْآخَرِ، وَضَوْءُ النَّهَارِ وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ إِذَا قُلْنَا أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ هُمَا الْمَجْعُولَانِ آيَتَيْنِ فَمَحْوُ آيَةِ اللَّيْلِ عِبَارَةٌ عَنِ السَّوَادِ الَّذِي فِيهِ، بَلْ خُلِقَ أَسْوَدَ أَوَّلَ حَالِهِ وَلَا تَقْتَضِي الْفَاءُ تَعْقِيبًا وَهَذَا كَمَا يَقُولُ بَنَيْتُ دَارِي فَبَدَأْتُ بِالْأُسِّ. وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْآيَتَيْنِ هُمَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، فَقِيلَ: مَحْوُ الْقَمَرِ كَوْنُهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ نُورًا. وَقِيلَ: مَحْوُهُ طُلُوعُهُ صَغِيرًا ثُمَّ يَنْمُو ثُمَّ يَنْقُصُ حَتَّى يُسْتَرَ.
وَقِيلَ: مَحْوُهُ نَقْصُهُ عَمَّا كَانَ خُلِقَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِضَاءَةِ، وَأَنَّهُ جَعَلَ نُورَ الشَّمْسِ سَبْعِينَ جُزْءًا وَنُورَ الْقَمَرِ كَذَلِكَ، فَمَحَا مِنْ نُورِ الْقَمَرِ حَتَّى صَارَ عَلَى جُزْءٍ وَاحِدٍ، وجعل ما محا مِنْهُ زَائِدًا فِي نُورِ الشَّمْسِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ
وَابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: جَعَلْنَاهَا لَا تُبْصَرُ الْمَرْئِيَّاتُ فِيهَا كَمَا لَا يُبْصَرُ مَا مُحِيَ مِنَ الْكِتَابِ.
قَالَ: وَهَذَا مِنَ الْبَلَاغَةِ الْحَسَنَةِ جِدًّا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أَيْ جَعَلْنَا اللَّيْلَ ممحوا لضوء مَطْمُوسَهُ، مُظْلِمًا لَا يُسْتَبَانُ مِنْهُ شَيْءٌ كَمَا لَا يُسْتَبَانُ مَا فِي اللَّوْحِ الْمَمْحُوِّ، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مُبْصِرًا أَيْ يُبْصَرُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ وَتُسْتَبَانُ، أَوْ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ الَّتِي هِيَ الْقَمَرُ حَيْثُ لَمْ يُخْلَقْ لَهُ شُعَاعٌ كَشُعَاعِ الشَّمْسِ فَتُرَى بِهِ الْأَشْيَاءُ رُؤْيَةً بَيِّنَةً، وَجَعَلْنَا الشَّمْسَ ذَاتَ شُعَاعٍ يُبْصَرُ فِي ضَوْئِهَا كُلُّ شَيْءٍ انْتَهَى. وَنُسِبَ الْإِبْصَارُ إِلَى آيَةَ النَّهارِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ كَمَا تَقُولُ: لَيْلٌ قَائِمٌ وَنَائِمٌ، أَيْ يُقَامُ فِيهِ وَيُنَامُ فِيهِ. فَالْمَعْنَى يُبْصَرُ فِيهَا.
وَقِيلَ: مَعْنَى مُبْصِرَةً مُضِيئَةٌ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَابِ أَفْعَلَ، وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ مَنْ أسند أفعل إليه كقولهم: أَجْبَنَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ أَهْلُهُ جُبَنَاءَ، وَأَضْعَفَ إِذَا كَانَ دَوَابُّهُ ضِعَافًا فَأَبْصَرَتِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute