للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ وَالْفَرَّاءُ: الزَّفِيرُ أَوَّلُ نَهِيقِ الْحِمَارِ، وَالشَّهِيقُ آخِرُهُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الزَّفِيرُ فِي الْحَلْقِ، وَالشَّهِيقُ فِي الصَّدْرِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا.

وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: الزَّفِيرُ زَفِيرُ الْحِمَارِ، وَالشَّهِيقُ شَهِيقُ الْبِغَالِ. وَانْتِصَابُ خَالِدِينَ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ أَيْ: مُدَّةُ دَوَامِ السموات وَالْأَرْضِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا التَّوْقِيتِ التأييد كَقَوْلِ الْعَرَبِ: مَا أَقَامَ ثَبِيرٌ وَمَا لَاحَ كَوْكَبٌ، وَضَعَتِ الْعَرَبُ ذَلِكَ لِلتَّأْبِيدِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ لِفَنَاءِ ثَبِيرٍ أَوِ الْكَوْكَبِ، أَوْ عدم فنائهما. وقيل: سموات الْآخِرَةِ وَأَرْضُهَا وَهِيَ دَائِمَةٌ لَا بُدَّ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ «١» وَقَوْلُهُ: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ «٢» وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِأَهْلِ الْآخِرَةِ مما يقلهم ويظلمهم، إِمَّا سَمَاءٌ يَخْلُقُهَا اللَّهُ، أو يظلهم العرش وكلما أَظَلَّكَ فَهُوَ سَمَاءٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ السموات وَالْأَرْضَ فِي الْآخِرَةِ يُرَدَّانِ إِلَى النُّورِ الَّذِي أُخِذَتَا مِنْهُ، فَهُمَا دَائِمَتَانِ أَبَدًا فِي نُورِ الْعَرْشِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الزَّمَانِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السموات وَالْأَرْضُ. وَالْمَعْنَى: إِلَّا الزَّمَانَ الَّذِي شَاءَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا يَكُونُ فِي النَّارِ، وَلَا فِي الْجَنَّةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الزَّمَانُ الْمُسْتَثْنَى هُوَ الزَّمَانُ الَّذِي يَفْصِلُ اللَّهُ بَيْنَ الْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْكَوْنِ فِي النَّارِ وَالْجَنَّةِ، لِأَنَّهُ زَمَانٌ يَخْلُو فِيهِ الشَّقِيُّ وَالسَّعِيدُ مِنْ دُخُولِ النَّارِ أَوِ الْجَنَّةِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْخُلُودِ فَيُمْكِنُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ النَّارِ، وَيَكُونُ الزَّمَانُ الْمُسْتَثْنَى هُوَ الزَّمَانُ الَّذِي فَاتَ أَهْلَ النَّارِ الْعُصَاةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَلَيْسُوا خَالِدِينَ فِي النَّارِ إِذْ قَدْ أُخْرِجُوا مِنْهَا وَصَارُوا فِي الْجَنَّةِ، وَهَذَا رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمَا، وَيَكُونُ الَّذِينَ شَقُوا شَامِلًا لِلْكُفَّارِ وَعُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُمْ مَا تَأَتَّى فِي أَهْلِ النَّارِ، إِذْ لَيْسَ مِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ثُمَّ لَا يَخْلُدُ فِيهَا، لَكِنْ يُمْكِنُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ الزَّمَانُ الَّذِي فَاتَ أَهْلَ النَّارِ الْعُصَاةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوِ الَّذِي فَاتَ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ، فَإِنَّهُمْ بِفَوَاتِ تِلْكَ الْمُدَّةِ الَّتِي دَخَلَ الْمُؤْمِنُونَ فِيهَا الْجَنَّةَ وَخُلِّدُوا فِيهَا صَدَقَ عَلَى الْعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَصْحَابِ الْأَعْرَافِ أَنَّهُمْ مَا خُلِّدُوا فِي الْجَنَّةِ تَخْلِيدَ مَنْ دَخَلَهَا لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، أَوْ فِي خَالِدِينَ، وَتَكُونُ مَا وَاقِعَةً عَلَى نَوْعِ مَنْ يَعْقِلُ، كما


(١) سورة ابراهيم: ١٤/ ٤٨.
(٢) سورة الزمر: ٣٩/ ٧٤

<<  <  ج: ص:  >  >>