للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ الْجَمِيلَيْنِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ الْحَقِيقَةَ أَيْ: إِنَّكَ لَلْمُتَّصِفُ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، فَكَيْفَ وَقَعْتَ فِي هَذَا الْأَمْرِ مِنْ مُخَالَفَتِكَ دِينَ آبَائِنَا وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَمِثْلُكَ مَنْ يَمْنَعُهُ حِلْمُهُ وَرُشْدُهُ عَنْ ذَلِكَ. أَوْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ بِزَعْمِكَ إِذْ تَأْمُرُنَا بِمَا تَأْمُرُ بِهِ. أَوْ يَحْتَمِلُ أَنْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّهَكُّمِ، قَالَهُ قَتَادَةُ.

وَالْمُرَادُ: نِسْبَتُهُ إِلَى الطَّيْشِ وَالْعِيِّ كَمَا تَقُولُ لِلشَّحِيحِ: لَوْ رَآكَ حَاتِمٌ لَسَجَدَ لَكَ، وَقَالُوا لِلْحَبَشِيِّ: أَبُو الْبَيْضَاءِ. قَالَ: يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ هَذِهِ مُرَاجَعَةٌ لَطِيفَةٌ وَاسْتِنْزَالٌ حَسَنٌ، وَاسْتِدْعَاءٌ رَقِيقٌ، وَلِذَلِكَ

قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَلِكَ خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ»

وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمَّى اسْتِدْرَاجُ الْمُخَاطَبِ عِنْدَ أَرْبَابِ عِلْمِ الْبَيَانِ، وَهُوَ نَوْعٌ لَطِيفٌ غَرِيبُ الْمَغْزَى يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى بُلُوغِ الْغَرَضِ، وَقَدْ وَرَدَ مِنْهُ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَبِيهِ، وَفِي قِصَّةِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ، وَفِي قِصَّةِ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ مَعَ قَوْمِهِ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : أَيْنَ جَوَابُ أَرَأَيْتُمْ، وما له لَمْ يَثْبُتْ كَمَا ثَبَتَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ وَصَالِحٍ؟ (قُلْتُ) : جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ لِأَنَّ إِثْبَاتَهُ فِي الصِّفَتَيْنِ دَلَّ عَلَى مَكَانِهِ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ يُنَاوِي عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى أَخْبِرُونِي إِنْ كُنْتُ عَلَى حُجَّةٍ وَاضِحَةٍ وَيَقِينٍ مِنْ رَبِّي، وَكُنْتُ نَبِيًّا عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَيَصِحُّ لِي أَنْ لَا آمُرَكُمْ بِتَرْكِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمَعَاصِي، وَالْأَنْبِيَاءُ لَا يُبْعَثُونَ إِلَّا لِذَلِكَ انْتَهَى. وَتَسْمِيَةُ هَذَا جَوَابًا لِأَرَأَيْتُمْ لَيْسَ بِالْمُصْطَلَحِ، بَلْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي قَدَّرَهَا هِيَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَرَأَيْتُمْ، لِأَنَّ أَرَأَيْتُمْ إِذَا ضُمِّنَتْ مَعْنَى أَخْبِرْنِي تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَالْغَالِبُ فِي الثَّانِي أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً اسْتِفْهَامِيَّةً تَنْعَقِدُ مِنْهَا وَمِنَ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ فِي الْأَصْلِ جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: أرأيتك زيدا ما صنع. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الكلام عليه، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَعْدِلْ عَنْ مَا أَنَا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَتِهِ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَوَابُ الشَّرْطِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَضِلُّ كَمَا ضَلَلْتُمْ، أَوْ أَتْرُكُ تَبْلِيغَ الرِّسَالَةِ وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا يَلِيقُ بِهَذِهِ الْمُحَاجَّةِ انْتَهَى. وَلَيْسَ قَوْلُهُ: أَضِلُّ جَوَابًا لِلشَّرْطِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُثْبَتًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ اسْتِفْهَامًا حُذِفَ مِنْهُ الْهَمْزَةِ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَرَأَيْتُمْ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ السَّابِقَةُ مَعَ مُتَعَلِّقِهَا.

وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: رِزْقًا حَسَنًا أَنَّهُ الْحَلَالُ الطَّيِّبُ مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ وَلَا تَطْفِيفٍ أَدْخَلْتُمُوهُ أَمْوَالَكُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَلَالُ، وَكَانَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَثِيرَ الْمَالِ. وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ.

وَقِيلَ: الْعِلْمُ. وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ الْمَعْنَى: لَسْتُ أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ الشَّيْءَ

<<  <  ج: ص:  >  >>