فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ. وَقَالَ الْآخَرُ: مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ أَنْ أُعَمِّرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. وَقَالَ آخَرُ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِمَّا قُلْتُمْ، فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ وَقَالَ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَلَكِنِّي إِذَا صَلَّيْتُ الْجُمُعَةَ دَخَلْتُ فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَوْلُهُ أَقْوَالًا أُخَرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى الِافْتِخَارِ بِالسِّقَايَةِ وَالْعِمَارَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سِقَايَةَ وَعِمَارَةَ وَهُمَا مَصْدَرَانِ نَحْوُ الصِّيَانَةِ وَالْوِقَايَةِ وَقُوبِلَا بِالذَّوَاتِ، فَاحْتِيجَ إِلَى حَذْفٍ مِنَ الْأَوَّلِ أَيْ: أَهْلَ سِقَايَةِ، أَوْ حَذْفٍ مِنَ الثَّانِي أَيْ: كَعَمَلِ مَنْ آمَنَ.
وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَالْبَاقِرُ وَأَبُو حَيْوَةَ: سَقَاةَ الْحَاجِّ، وَعَمَرَةَ الْمَسْجِدِ
، جَمْعُ سَاقٍ وَجَمْعُ عَامِرٍ كَرَامٍ وَرُمَاةٍ وَصَانِعٍ وَصَنَعَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ نَصَبَ الْمَسْجِدَ عَلَى إِرَادَةِ التَّنْوِينِ فِي عَمَرَةً. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: سُقَايَةَ بِضَمِّ السِّينِ، وَعِمْرَةَ بُنِيَ الْجَمْعُ عَلَى فِعَالٍ كَرِخْلٍ وَرُخَالٍ، وَظِئْرٍ وَظُؤَارٍ، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ هَاءٍ، لَكِنَّهُ أَدْخَلَ الْهَاءَ كَمَا دَخَلَتْ فِي حِجَارَةٍ.
وَكَانَتِ السِّقَايَةُ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَكَانَ الْعَبَّاسُ يَتَوَلَّاهَا،
وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ الْعَبَّاسُ: مَا أَرَانِي إِلَّا أَتْرُكُ السِّقَايَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «أَقِيمُوا عَلَيْهَا فَهِيَ لَكُمْ خَيْرٌ» وَعِمَارَةُ الْمَسْجِدِ هِيَ السدانة، وكانت فِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَشَيْبَةُ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ هُمَا اللَّذَانِ دَفَعَ إِلَيْهِمَا رسول الله صلى الله عليه وسلم مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ فِي ثَامِنِ يَوْمِ الْفَتْحِ بَعْدَ أَنْ طَلَبَهُ الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ وَشَيْبَةَ: «خُذُوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً لَا يُنَازِعُكُمَا عَلَيْهَا إِلَّا ظَالِمٌ»
يَعْنِي السِّدَانَةَ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِنْكَارُ أَنْ يُشَبَّهَ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَأَعْمَالُهُمُ الْمُحْبَطَةُ بِأَعْمَالِهِمُ الْمُثَبِّتَةِ. وَلَمَّا نَفَى الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا أَوْضَحَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، مِنَ الرَّاجِحِ مِنْهُمَا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ هُمُ الظَّالِمُونَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَظَلَمُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِذْ جَعَلَهُ الله متعبدا له فَجَعَلُوهُ مُتَعَبَّدًا لِأَوْثَانِهِمْ. وَذَكَرَ فِي الْمُؤْمِنِينَ إِثْبَاتَ الْهِدَايَةِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ «١» وَفِي الْمُشْرِكِينَ هُنَا نَفَى الْهِدَايَةَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظالمين.
(١) سورة التوبة: ٩/ ١٨.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute