مُصْحَفِ أُبَيٍّ قَالُوا: رَبَّنَا لَئِنْ تَرْحَمْنَا وَتَغْفِرْ لَنَا، بِتَقْدِيمِ الْمُنَادَى وَهُوَ رَبِّنَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلَانِ صَدَرَا مِنْهُمْ جَمِيعِهِمْ عَلَى التَّعَاقُبِ أَوْ هَذَا مِنْ طَائِفَةٍ وَهَذَا مِنْ طَائِفَةٍ فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْخَوْفُ وَقَوِيَ عَلَى الْمُوَاجَهَةِ خَاطَبَ مُسْتَقِيلًا مِنْ ذَنْبِهِ الْعَظِيمِ وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْحَيَاءُ أَخْرَجَ كَلَامَهُ مَخْرَجَ الْمُسْتَحْيِي مِنَ الْخِطَابِ فَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الْغَائِبِ وَفِي قَوْلِهِمْ: رَبُّنا اسْتِعْطَافٌ حَسَنٌ إِذِ الرَّبُّ هُوَ الْمَالِكُ النَّاظِرُ فِي أَمْرِ عَبِيدِهِ وَالْمُصْلِحُ مِنْهُمْ مَا فَسَدَ.
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أَيْ رَجَعَ مِنَ الْمُنَاجَاةِ
يُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا قَرُبَ مِنْ مَحَلَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَمِعَ أَصْوَاتَهُمْ فَقَالَ هَذِهِ أَصْوَاتُ قَوْمٍ لَاهِينَ فَلَمَّا تَحَقَّقَ عُكُوفَهُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ دَاخَلَهُ الْغَضَبُ وَالْأَسَفُ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ أَخْبَرَهُ تَعَالَى قَبْلَ رُجُوعِهِ أَنَّهُمْ قَدْ فُتِنُوا بِالْعِجْلِ فَلِذَلِكَ رَجَعَ وَهُوَ غَاضِبٌ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ «١» الْآيَةَ وغَضْبانَ مِنْ صِفَاتِ الْمُبَالَغَةِ وَالْغَضَبِ غَلَيَانُ الْقَلْبِ بِسَبَبِ حُصُولِ مَا يُؤْلِمُ
وَذَكَرُوا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنْ أَسْرَعِ النَّاسِ غَضَبًا وَكَانَ سَرِيعَ الْفَيْئَةِ
، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ كَانَ إِذَا غَضِبَ طَلَعَ الدُّخَانُ مِنْ قَلَنْسُوَتِهِ وَرَفَعَ شعر بدنه جبته
وأَسِفاً مِنْ أَسِفَ فَهُوَ أَسِفٌ كَمَا تَقُولُ فَرِقَ فَهُوَ فَرِقٌ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْوَصْفِ وَلَوْ ذَهَبَ بِهِ مَذْهَبَ الزَّمَانِ لَكَانَ عَلَى فَاعِلٍ فَيُقَالُ: آسِفٌ وَالْآسِفُ الْحَزِينُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ أَوِ الْجَزِعُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَوِ الْمُتَلَهِّفُ أَوِ الشَّدِيدُ الْغَضَبِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ بِمَعْنَى الْحَزِينِ أَوِ الْمُغْضَبِ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَوِ النَّادِمُ قَالَهُ الْقُتَبِيُّ أَيْضًا، أَوْ مُتَقَارِبَانِ قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ قَالَ: فَإِذَا أَتَاكَ مَا تَكْرَهُ مِمَّنْ دُونَكَ غَضِبْتَ أَوْ مِمَّنْ فَوْقَكَ حَزِنْتَ فَأَغْضَبَهُ عِبَادَتُهُمُ الْعِجْلَ وَأَحْزَنَهُ فِتْنَةُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَكَانَ قَدْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بِئْسَما فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ وَالْخِطَابُ إِمَّا لِلسَّامِرِيِّ وَعُبَّادِ الْعِجْلِ أَيْ بِئْسَما قُمْتُمْ مَقَامِي حَيْثُ عَبَدْتُمُ الْعِجْلَ مَكَانَ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِمَّا لِوُجُوهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ هَارُونَ وَالْمُؤْمِنِينَ حَيْثُ لَمْ يَكُفُّوا مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ وخَلَفْتُمُونِي يَدُلُّ عَلَى الْبَعْدِيَّةِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَعْنَى هُنَا مِنْ بَعْدِ مَا رَأَيْتُمْ مِنِّي تَوْحِيدَ اللَّهِ تَعَالَى وَنَفْيَ الشُّرَكَاءِ عَنْهُ وَإِخْلَاصَ الْعِبَادَةِ لَهُ أَوْ مِنْ بَعْدِ مَا كُنْتُ أَحْمِلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَأَكُفُّهُمْ عَنْ مَا طَمَحَتْ إِلَيْهِ أَبْصَارُهُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْبَقَرِ وَمِنْ حَقِّ الْخَلَفِ أَنْ يَسِيرَ سِيرَةَ الْمُسْتَخْلَفِ وَلَا يُخَالِفَهُ وَيُقَالُ خَلَفَهُ بِخَيْرٍ أَوْ شَرٍّ إِذَا فَعَلَهُ عَنْ تَرْكِ مَنْ بَعْدَهُ.
(١) سورة طه: ٢٠/ ٨٥.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute