قوله: وحياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم ثابتة عند أهل السنة بأدلة كثيرة.
أقول: هب أنّ حياة الأنبياء عليهم السلام ثابتة، ولكنها حسب اعتراف صاحب الرسالة ليست مثل الحياة الدنيوية، فلا يتفرع عليها جواز التوسل كما يتفرع على الحياة الدنيوية.
قوله: فإن قال قائل: إنّ شبهة هؤلاء المانعين للتوسل أنهم رأوا بعض العامة يأتون بألفاظ تُوهم أنهم يعتقدون التأثير لغير الله تعالى، ويطلبون من الصالحين أحياء وأمواتاً أشياء جرت العادة بأنها لا تطلب إلا من الله تعالى، ويقولون للولي: افعل لي كذا وكذا، وأنهم ربما يعتقدون الولاية في أشخاص لم يتصفوا بها، بل اتصفوا بالتخليط وعدم الاستقامة، وينسبون لهم كرامات وخوارق عادات وأحوالاً ومقامات وليسوا بأهل لها ولم يوجد فيهم شيء منها، فأراد هؤلاء المانعون للتوسل أن يمنعوا العامة من تلك التوسعات دفعاً للإيهام وسداً للذريعة، وإن كانوا يعلمون أن العامة لا يعتقدون تأثيراً ولا نفعاً ولا ضراً لغير الله تعالى ولا يقصدون بالتوسل إلا التبرك، ولو أسندوا للأولياء شيئاً لا يعتقدون فيهم تأثيراً.
فنقول لهم: إذا كان الأمر كذلك وقصدتم سد الذريعة، فما الحامل لكم على تكفير الأمة عالمهم وجاهلهم وخاصهم وعامهم؟ وما الحامل لكم على منع التوسل مطلقاً؟ بل كان ينبغي لكم أن تمنعوا العامة من الألفاظ الموهمة لتأثير غير الله تعالى، وتأمروهم بسلوك الأدب في التوسل.
أقول: أولاً: إن تقرير دليل المانعين نوع تحريف مقصود، وأصل تقريرهم هكذا: إنا نرى كثيراً من العامة وبعض الخواص يأتون بألفاظ دالّة دلالة مطابقة على أنهم يعتقدون التأثير لغير الله تعالى، ويطلبون من الصالحين أحياءً وأمواتاً أشياء لا يقدر عليها إلا الله، وينذرون لهم النذور وينحرون لهم النحائر ويقربون إليهم نفائس الأموال، ويجعلونهم وسائط يدعونهم ويسألونهم جلب المنافع، بمعنى أن الخلق يسألونهم وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملوك أو لكونهم أقرب إلى الملك.
وبعد ملاحظة أصل تقريرهم وجه التكفير ظاهر، فإن اعتقاد تأثير غير الله كفر صريح، والدعاء والنذر والنحر عبادة، وعبادة غير الله شرك وكفر.
وثانياً: أنا معاشر أهل التوحيد لا نكفِّر الأمة كلهم عالمهم وجاهلهم وعامهم وخاصهم، هذا افتراء علينا، بل نكفّر من وُجد فيه موجبات الكفر من اعتقاد التأثير لغير الله واعتقاد أنه يضر وينفع، ودعاء غير الله والنذر له والنحر له وغيرها.
ثالثاً: أنّ مجرد عدم اعتقاد التأثير لغير الله لا يكفي للبراءة من الشرك كما تقدم، بل لابد فيها من إخلاص العبادة لله تعالى، بأن يكون الدعاء والاستغاثة والنذر والنحر وسائر أقسام العبادة كلها لله تعالى ...